بائعات السمك في الناصرية: حياة قاسية في سبيل لقمة العيش
المنصة – مرتضى الحدود
مع حلول الساعة التاسعة مساء تبدأ رحلة أم محمد وشقيقتها حيث تنطلقان في سيارة صغيرة نحو قضاء الفهود شرق محافظة ذي قار انه المكان الذي يجلبن منه الأسماك الطازجة من مسافة ليست بالقصيرة ويتوقف الزمن قليلاً ليبدأ العمل الجاد.
أم محمد السيدة الخمسينية بوجهها الأسمر الذي رسمت الايام بريشتها خطوطا عميقة فيه افرزتها سنوات التعب والكفاح، تروي حكاية عمرها خمسة عشر عاما قضتها في بيع السمك عند تقاطع شارع إبراهيم الخليل وسط مدينة الناصرية فهي تجلس على الأرض وتضع امامها أكواما من السمك الطازج فيما تبدو على يديها آثار البرد وبعض الجروح التي اكتسبتها اثناء تنظيف السمك للزبائن.
بعبارة “هلة يا قلبي، وبعد روحي” تستقبل ام محمد زبائنها لتبيع اسماكها التي قطعت لجلبها مسافة (60 كلم) ذهابا ومثلها اثناء العودة وتمضي اكثر من ساعتين وهي تتنقل بين بائعي الأسماك بأنواعها المختلفة لتضمن اقل سعر وافضل نوع مثل “الخشني” و”السمتي” كي تتمكن من بيعه لاحقا في السوق بأسعار تتراوح بين خمسة آلاف وستة آلاف دينار للكيلوغرام الواحد.
أم محمد لا تأبه بالبرد القارس الذي يتسرب الى عظامها في الليالي الباردة فهي تحاول تدفئة نفسها بثوبين شتويين و”جاكيت” أما العباءة فهي الحاجز الوحيد بينها وبين الرياح الباردة التي تلاحقها، ساعات طويلة تقضيها في سوق السمك وأحيانًا حتى الفجر، ولكن لا يتوقف العزم في قلبها.
ورغم قساوة الظروف الا ان ابتسامتها لا تفارق وجهها فبمجرد عودتها إلى الناصرية، تتجه الى السوق في الساعات الأولى للصباح الباكر، حيث تجلس ومن أمامها بسطيتها الصغيرة، محاطة بأكوام السمك الطازج ومع قدوم الزبائن، تبدأ الحديث معهم وتعرض عليهم الأسماك وهي تلوح لهم بيديها بكل حيوية.
أما أختها أم حسين فتروي حكايتها التي تتشابه مع حكاية ام محمد في بعض تفاصيلها وتقول “أمتهنت هذه المهنة بعدما تعلمتها من أمي”، تعرض السيدة الجنوبية أسماكها في نفس المكان. وتروج لها بطريقة تمزج فيها بين الجد والمزاح وتنافس أختها في تقديم أسماكها بسعر أقل “انه تنافس شريف لا غبار عليه” تضحك ام حسين.
الساعات الطويلة التي تقضيها أم محمد وشقيقتها ،ام حسين في السوق لا يعني ان مكسبهما مرتفعا اذ تحصل كل واحدة منهما على ما يكفي لقوت بومها مع عائلتها وليس هناك مجال لزيادة الأسعار، إذ أن معظم المتسوقين من الطبقات الفقيرة والمتوسطة مما يجعل بيع السمك في الناصرية مهمة شاقة لكنها حيوية.
أم علي سيدة أخرى تعمل في سوق السمك امتهنت بيعه منذ عشرين عاما، ولم يوقفها الزمن ولا برد الشتاء القارص، فملابسها تكشف عن حجم صمودها إذ ترتدي معطفا رجاليا سميكا جلديا تحت عباءتها الثقيلة ذات اللون الاسود الا ان شدة تعرضها للهواء والشمس جعل تلك العباءة تكتسب لونا جديدا يميل الى الحمرة فيما ترتدي قفازات بلاستيكية ملونة وتمسك بأطراف أصابعها عباءتها حذرة من ان تقع من اعلى راسها فالعباءة شيء مقدس لدى أولئك النسوة.
وتبدو السيدة قد اعتادت على الحياة الصعبة فهي لا تأبه للظروف الصعبة او الربح القليل وتقول “هذه هي الحياة لا تتوقع ان تعطيك بل اعمل حتى النهاية لتكسب رزقك بيديك افضل من ان تمدها لطلب العون من غيرك فيذلك”.
ام علي اتخذت من احد الاماكن المجاورة لسوق هرج موقعا استراتيجيا حيث حركة المارة من امامها وقد وضعت أربعة أطباق كبيرة في كل طبق نوع مختلف من السمك وهي لا تتوقف عن مناداة الزبائن بصوت عالٍ “هذا خشني الشط وسمتي الفهود”، في إشارة واضحة لنوعية السمك ومصدره، لتطمئن الزبائن بأن بضاعتها طازجة وغير مغشوشة.
وعندما تقترب إحدى الزبائن تتوقف عن الحديث مع صحفي المنصة وتنصت بكل انتباه بهدف بيع كيلو من سمك الخشني وتتلاطف مع زبونتها رغم محاولة الاخيرة ان تقلل من السعر ولكن بحكمة وحلاوة لسانها تتفاوض على السعر بسرعة وبعد لحظات من المزاح اللطيف، تتمكن أم علي من بيع الكيلو الكامل بسعره دون أي تخفيض.
هكذا هي حياة أم علي في سوق السمك مزيج من العمل الشاق والصبر وحلاوة الحديث فهي لم تكتفِ بمواجهة قسوة الحياة بل تعلمت فنون التجارة لتظل هناك في مكانها المعتاد، تكافح وتبتسم رغم كل الصعوبات.
قصص بائعات السمك في الناصرية شاهدة على مواجهة قسوة الحياة فيما يعانين من شظف العيش، فإنهن يبقين رمزاً للتحدي ويجسدنه في كل ابتسامة وأمل يتسلل بين الساعات الطويلة من العمل الشاق وعلى الرغم من الظروف والربح المحدود، إلا أن عزيمتهن لا تلين، ويبقى إصرارهن على مواجهة الحياة هي القوة التي تدفعهن للاستمرار فلا استراحات ولا وقت للانكسار.
أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)