مقبرة القطارات في بغداد.. من يبعث فيها الروح؟

بغداد- عباس فاضل

وسط منطقة الكاظمية التاريخية في بغداد، تقف محطة القطارات المهجورة المعروفة بـ”مقبرة القطارات” كمعلم صامت يحمل ذكريات حقبةٍ كانت فيها السكك الحديدية شريان الحياة الذي يربط المدن العراقية. 

اليوم تصطف عربات القطارات القديمة، وقد نالت منها عوامل الزمن فتحولت إلى مأوى للعناكب والعشب البري. زجاج النوافذ المهشم والألوان الباهتة يمنحان المكان طابعاً حزيناً يحكي قصص مسافرين عبروا من هنا وأحاديث اللقاءات والفراق التي سجلت على أرصفة المحطة. الهياكل المعدنية أكلها الصدأ، بعضها ما زال يحتفظ ببقايا ألوانه الزاهية لتبدو وكأنها شاهدة على مجدٍ غابر. 

يجلس أحد الموظفين في غرفة قديمة ذات باب صغير بجدران متآكلة مع بقع من الرطوبة على الأرضية. الأثاث بسيط، يضم طاولة خشبية صغيرة وبعض الكتب القديمة المتناثرة في الزوايا التي لم تُستخدم منذ فترة طويلة. يرتدي هذا الموظف زي العمل، لكن لا يبدو أن هناك عملاً يمكن القيام به. يشرب مع زملائه الموظفين الشاي ويتبادلون الأحاديث. عندما نلقي عليهم السلام يكتفون برمق الفضوليين مثلنا بنظرات فاحصة، مفضلين مراقبة المكان بصمت. 

تحيط بالمقبرة منازل بسيطة تتناثر بينها عربات القطارات المتروكة التي يتجاوز بعضها حدود السكة الحديدية. الأهالي الذين يعيشون هنا بالقرب من هذه الهياكل المعدنية يعانون أثناء خروجهم وعودتهم إلى منازلهم، فالأرض مغطاة بطبقة من الطين الرطب، والحجارة تفترش الأرض هنا وهناك مما يجعل المشي صعباً. 

يقول “أبو علي”، أحد سكان المنطقة “أصبحت العربات المتهالكة والمعطلة رمزاً للجمود وعدم الحركة. هذا الوضع يثير القلق، فالمحطة التي كانت يوماً مركزًا للنشاط والحيوية تحولت إلى منطقة محظورة تخيف السكان. من الصعب على الناس الاقتراب منها أو حتى التفكير في استكشافها”. 

ويضيف “هذا الوضع ليس مجرد إهمال لموقع تاريخي، بل هو أيضاً تجسيد للقلق الذي يشعر به المجتمع تجاه سلامته. من الضروري اتخاذ خطوات لتحسين وضع المحطة، سواء من خلال إعادة تأهيلها أو فتحها أمام الجمهور بطريقة آمنة”.

تعد محطة قطار الكاظمية، التي تأسست عام 1904، أقدم محطة قطارات في العراق وشاهدة على انطلاقة عصر النقل الحديث في البلاد. جاءت فكرة إنشاء شبكة السكك الحديدية، ومنها خط برلين–بغداد، في سياق التعاون المتنامي بين الدولة العثمانية وألمانيا خلال عهد الإمبراطور فيلهلم الثاني، حيث انطلقت أول رحلة قطار في العراق في 1 أبريل 1914، من مدينة البصرة إلى بغداد، وكانت بداية لتطوير شبكة السكك الحديدية في البلاد. 

ولم تكن السكة مجرد وسيلة نقل بل مثّلت مشروعاً استراتيجياً يربط بغداد بمناطق أخرى ويسهم في تعزيز الحركة التجارية والتنمية الاقتصادية آنذاك.

اليوم، تحولت المحطة التاريخية إلى مصدر معاناة لسكان المنطقة المحيطة وبؤرة للمشكلات الأمنية إذ يخشى السكان الخروج ليلاً بسبب غياب الإنارة، وتتفاقم المشكلة مع تراكم النفايات التي تسبب تلوثاً بيئياً، مما يهدد صحة السكان ويؤثر على حياتهم اليومية.

في ظل هذه التحديات، يطالب أبو علي ومعه مئات الأهالي بتدخل الجهات المعنية، سواء من خلال إعادة تأهيل المحطة واستثمارها سياحياً أو من خلال تحسين البنية التحتية المحيطة بها. “نريد أن يعود الأمل للسكان بأن يتحول الموقع إلى منطقة مرغوبة بدلاً من أن يكون عبئاً علينا وعلى زوارها” يقول أبو علي.

محطة الكاظمية ليست الوحيدة التي تعاني من الإهمال، إذ يشير مدير الشركة العامة للسكك الحديد، طالب الحسيني، إلى أن “طول خطوط السكك الحديد في البلاد يصل إلى 2000 كيلومتر، ولكن حوالي (60–70%) منها قديمة ومتهالكة بسبب التجاوزات وتدهور الأوضاع الأمنية التي شهدتها بعض المحافظات على مر السنين”. 

على امتداد هذه الخطوط، تنتشر مقابر القطارات المتروكة، كتلك التي في محافظة الموصل في شارع الصديق بالساحل الأيمن، وهي مقبرة محاطة بالساحات المهجورة، وكذلك الحال مع محطة كركوك التي تأسست عام 1951، ومحطة القائم في محافظة الأنبار التي باتت مهجورة ومهملة. 

في قلب مقبرة القطارات في الكاظمية، تمتزج أشعة الشمس مع ظلال العربات المهجورة، لتروي الهياكل الصدئة حكايات صمود وأمل. ومع أن لحظات الغروب تضفي سحراً خاصاً على المشهد، إلا أن الأهالي القاطنين في الجوار والموظفين العاملين هنا يرونها مقبرةً مهملة تحتاج إلى تدخل حكومي يعيد إليها الحياة ويبعث فيها الروح من جديد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى