فارس فؤاد جهاد: صانع الأعواد البغدادية وحارس الحرفة العريقة

بغداد – أحمد محمد
على الضفة الكرخية لنهر دجلة، في قلب منطقة التراث العريقة، يتردد صوت مطرقة بين جدران ورشة صغيرة تعج برائحة الخشب والغراء.
داخل هذه الورشة التي تحمل عبق الماضي، ينهمك فارس فؤاد في تشكيل قطعة من خشب السيسم وتحويلها إلى عود بغدادي أصيل. المكان ليس مجرد ورشة، بل مصنعاً للأنغام التي تتجاوز الحدود لتصل إلى أيدي الفنانين وعشاق الموسيقى في مختلف أنحاء العالم.
ورث فارس، البالغ من العمر أربعين عاماً، هذه الحرفة عن والده العواد المعروف فؤاد جهاد، الذي بدأ بصنع الأعواد منذ خمسينيات القرن الماضي. في طفولته، كانت أصوات نحت الخشب ورائحة الغراء الساخن جزءاً من يومه العادي.
يقول: “حين وعيت على الحياة، وجدت والدي يصنع أعواداً. تعلمت معه خطوة بخطوة، وأول عود صنعته كان بمساعدته عندما كنت في العاشرة من عمري. منذ ذلك الحين، لم يفارقني الشغف، وكأن العود أصبح جزءاً من هويتي”.
تعرف بغداد بأنها مهد صناعة العود في العالم العربي، حيث ازدهرت هذه الحرفة في مناطق مثل الميدان وشارع الرشيد، موطن العديد من الحرفيين الذين توارثوا أسرار الصناعة عبر الأجيال. في هذه الورش يعمل الحرفيون باستخدام أدوات تقليدية وتقنيات قديمة مما يجعل كل عود تحفة فريدة من نوعها.
في ورشة فارس تتناثر الأدوات اليدوية القديمة، من مناشير خشبية إلى مطارق صغيرة، وكل أداة لها مكانتها في هذا العمل الفني. يقول فارس: “العود ليس مجرد آلة موسيقية، بل هو كائن حي. كل جزء فيه، من الطاسة إلى الأوتار، يحمل شيئاً من روح الصانع”.
خلال مسيرته صنع فارس أعواداً لعدد من كبار الفنانين في العراق والخليج العربي. يتحدث بفخر عن هؤلاء الفنانين الذين وجدوا في أعواده الصوت الذي يبحثون عنه. يقول: “صنعت أعوادًا لفنانين مثل راشد الماجد وفهد الناصر. وأتذكر كيف شعرت بالإنجاز عندما أخبرني وكيل في السعودية بأن عوداً صنعته بيع لشخصية سياسية بارزة. كان هذا بمثابة اعتراف بمهارتي وإتقان عملي”.
لا تقتصر أعمال صانع العود على الكبار فقط، فقد حرص على صناعة أعواد مخصصة للأطفال الذين يرغبون في تعلم الموسيقى. “صنعت عوداً لطفل يبلغ من العمر 9 سنوات بناءً على طلب والده. كان ذلك الطفل يحمل في عينيه شغفاً لا يقل عن شغفي عندما كنت صغيرا”، يضيف فارس بابتسامة.
تواجه صناعة العود في العراق تحديات كبيرة، أبرزها صعوبة الحصول على الأخشاب المناسبة. يوضح فارس: “نستخدم أنواعًا مختلفة من الخشب مثل السيسم الهندي والجوز والسيدار الكندي والسبروز الألماني. نضطر لاستيراد معظم هذه الأخشاب من الخارج لأن السوق المحلي لا يوفر لنا ما نحتاجه. في تركيا، لديهم متاجر متخصصة بأخشاب العود، لكن هنا في العراق نفتقر إلى مثل هذه المتاجر”.
في ورشته يبدأ فارس عمله بصبر ودقة. يصف عملية التصنيع بقوله: “العمل يبدأ من الطاسة، ظهر العود، التي تتكون من 19 حسكة. أحرق الضلع وأثبته على القالب، ثم أواصل العمل بحذر لضمان أن يكون كل جزء من العود مثالياً. الدقة في هذه المرحلة هي ما يميز العود البغدادي عن غيره”.
يمتاز العود العراقي يمتاز بصوت عميق ودافئ، مما يجعله محط اهتمام الموسيقيين حول العالم. ويرى فارس أن العود التقليدي يصدر نغمة تخرج من القلب، وهو ما يميز العود اليدوي عن العود الكهربائي. “اليد التي تصنع العود تضيف إليه حياة وروحاً ولا يمكن مقارنة العود اليدوي بأي آلة أخرى، لأن كل ضربة مطرقة وكل نحت يضفي لمسة فريدة”، يقول.
في بغداد تبرز أسماء صانعي أعواد مشاهير مثل الراحل محمد فاضل الذي يعتبر من أعمدة صناعة العود في العراق، إلى جانب والده فؤاد جهاد والراحل نجم عبود الرجب وفوزي منشد، الذين ساهموا في الحفاظ على هذه الحرفة وتطويرها. يتحدث فارس عن هؤلاء الأساتذة بتقدير، ويعتبرهم مصدر إلهام لكل صانع عود شاب.
وعلى الرغم من التحديات، يظل فارس متفائلاً بمستقبل صناعة العود في العراق. “أتمنى أن يحظى صانعو العود بالدعم الذي يستحقونه. نحن نحافظ على تراث عريق، وأتمنى أن يبدع الجيل الجديد في هذه الحرفة ويضيف لمسات جديدة لها”، يقول.
في نهاية يومه الطويل، يجلس فارس على كرسيه الخشبي، ينظر إلى أعواده المكتملة بفخر ورضا، قبل أن يبتسم قائلاً: “الحب هو ما يصنع الإبداع. نصيحتي للشباب أن يحبوا ما يعملون، فمن هذا الحب يمكنهم تحقيق ما حققته وأكثر”.