النباشات… قصص ألم وأمل لنساء بين أكوام القمامة

 

المنصة – فاطمة كريم

 

تحت سماء بغداد المعتمة في فجرٍ باردٍ يعصف بوجوه المارين، تنطلق أم حسن وهي تلف رأسها بقطعة قماش مهترئة، لا تحميها من لسعات البرد القارس الذي يتسلل إلى عظامها، تسير بخطوات سريعة في أزقة الحي الشعبي، تحمل بيدها عصا طويلة تستخدمها للتنقيب بين أكوام النفايات.

هي امرأة في عقدها الاربعين تسكن في إحدى القرى الواقعة في منطقة التاجيات شمال بغداد، تعمل في نبش النفايات بحثا عن بعض القطع من الكارتون والبلاستك لتجميعها ومن ثم بيعها، “استيقظ يوميا منذ الساعة الرابعة فجرا كي اصل الى مكب النفايات قبل أن تصل له شاحنات النقل وتأخذ رزقنا” تقول ام حسن.

“النباشات” هو مصطلح يُطلق على النساء اللواتي يعملن في مجال جمع النفايات من الشوارع والمكبات العامة في ظروف قاسية وصعبة، بحثًا عن مواد قابلة لإعادة التدوير مثل البلاستيك، الكارتون، الزجاج، والنحاس. يمثل هذا العمل مصدر رزقهن الوحيد في ظل غياب فرص العمل، خاصة في المدن الكبرى مثل بغداد.

تنظر ام حسن حولها بحذرٍ كي تسبق شاحنات نقل النفايات التي تلتهم كل شيء في طريقها. تستجمع قواها لتجمع البلاستيك، الكارتون، وحتى قطع النحاس الصغيرة التي ستبيعها بأثمان زهيدة لتأمين قوت يومها.

“العمل صعب، لكن ان تعيش بعرق جبينك وشرفك هو الأجمل في هذا الوقت “، تقولها أم حسن وهي تحني ظهرها المتعب لتلتقط زجاجة بلاستيكية ألقتها يدٌ عابرة. تعيش هذه المرأة، كغيرها من النباشات، حياة بسيطة وصعبة على هامش المجتمع، حيث تختلط القمامة بالأمل، والألم بالصبر، لتصنع يومًا جديدًا من البقاء.

في العراق توجد آلاف النساء اللواتي  يعملن في  مكبات النفايات داخل العراق وهذا العمل يولد مخاطر صحية وحوادث كبيرة نتيجة النبش بالنفايات وذلك لوجود مواد خطرة وسامة وآلات جارحة ناهيك عن كمية تلوث عالية تتعرض لها تلك النسوة.

وبحسب احصائية ذكرها النشاط البيئي ورئيس مؤسسة حقب حيدر رشاد لـ”المنصة” فإن مدينة بغداد وحدها  يوجدها بها 800 عائلة تعمل في مكبات النفايات ومن ضمنهم 1800 امرأة تعمل  داخل17 مكب، وعلى مستوى العراق يتضاعف العدد بشكل اكبر”

منظمة الصحة العالمية تؤكد في تقاريرها ان النساء اللواتي يعملن في هذه المهنة  يتعرضن إلى أمراض تنفسية وجلدية بشكل أكبر من غيرهن، والحوامل منهن معرضات للإجهاض وحتى بعد الولادة أطفالهم يصبحون ضعيفي البنية وقصار القامة.

إذ تعد مشكلة النفايات في بغداد من أبرز التحديات البيئية التي تواجه العاصمة العراقية، حيث تنتج المدينة ما يزيد عن 11مليون طن سنويا من النفايات، اي ان معدل إنتاج الفرد الواحد يصل إلى 2.5 كغم يوميا، وهذه بحسب احصائيات الجهاز المركزي للإحصاء لعام 2022.

وتتراكم  هذه النفايات في الشوارع والأحياء السكنية والمكبات العشوائية، مما يشكل خطرًا بيئيًا وصحيًا مباشرًا على السكان، حيث يرجع هذا إلى غياب التخطيط والتنظيم و تزايد إعداد  السكان إذ مع الزيادة السكانية المستمرة، تتضاعف كميات النفايات يوميًا، وايضا البنى التحتية الضعيفة.

يدَا أم حسن تحملان حكاية امرأة مناضلة، على الرغم من التشققات العميقة التي تقطع جلدها والخطوط الداكنة التي رسمتها الأيام، ترى فيهما مصدر فخر واعتزاز. أصابعها القاسية، التي فقدت ملمسها الناعم بفعل البرودة والجروح، تروي قصص كفاحها اليومي بين أكوام النفايات وتحتفظ طيات جلدها الخشن بآثار العمل الشاق، وكأن كل جرح وكل شق هو شهادة على عزمها وإصرارها.

تقول وهي تنظر إليهما بعينين مفعمتين بالرضا: “هذه يداي.. صحيح إنهما منهكتان لكنني أفتخر بهما، بهذه اليدين أمنت الطعام لأولادي وأحميهم من الجوع.” رغم الألم الذي تخفيه، تحمل أم حسن شعورًا عميقا بالكرامة، تُظهر يديها كأنهما وسام شرف، يدَا أم حسن ليستا مجرد أدوات عمل، بل هما رمز لصمودها وكرامتها. ففي كل تجعيده وخدش، تختبئ قصة تضحية ورغبة عميقة في توفير حياة كريمة لعائلتها، حتى لو كان ذلك وسط أكوام القمامة.

سليمة عباس و الملقبة بـ “ام كاظم” وهي في الخمسينات من عمرها ، زميلة ام حسن و تعملان في المكب ذاته فهن يساعدني بعضهن البعض في تجميع قطع البلاستك وغيرها من الخردة، تتحدث قائلة ” تعرفت على ام حسن هنا كنا نتسابق ونتشاجر على تجميع القطع لكن الآن نحن نتعاون فيما بيننا فقد تعرفنا على هموم بعضنا البعض وأصبحنا اخوات”

النفايات التي تتكدس في شوارع بغداد لا تعني سوى أعباء إضافية لسكانها، لكنها لأم كاظم وزميلاتها “كنزٌ مخفي” حيث تجمع أم كاظم يوميًا بين (10-15) كيلوغرامًا من البلاستيك والكارتون، تبيعها لمعامل تدوير صغيرة بربع قيمتها السوقية، “نبيعهم بـ1500 دينار للكيلو، وهكذا نشتري طحين وأحيانًا حليب للصغار”، تقولها ام كاظم  بنبرة مختلطة بين الاستسلام والأمل.

تبدأ السيدتان يومهما معًا، تسيران بخطوات متعبة، تحمل كل واحدة منهما كيسا كبيرا وعصا طويلة. تتنقلان من مكب إلى آخر، تنبشان بعناية بحثًا عن البلاستيك والكارتون وقطع النحاس الصغيرة التي يمكن أن توفر لهما بضعة آلاف من الدنانير، وعندما يأتي وقت الاستراحة تجلسان على حافة الطريق وتتقاسمان كسرة خبز أو كوب شاي بسيط، تقول أم حسن مبتسمة: “حتى الطعام بيننا ينقسم، كل وحدة منا تصبح  مسؤولة عن الأخرى”.

وفي نهاية اليوم تذهب ام حسن الى منزلها وعند الباب يستقبلها أطفالها بابتسامات صغيرة وبريئة، تلقي بالكيس في زاوية الغرفة وتجلس لتستريح قليلاً. “تعبنا، لكن الحمد لله.. اليوم جمعنا شيء يكفي للعيش”، تقولها وهي تراقب أبنائها يضحكون ويتناولون ما أحضرته، بالرغم من قسوة عملها، تجد أم حسن في عائلتها القوة التي تدفعها للاستمرار. ترفع يديها التي تحمل آثار الكفاح اليومي، تتأمل تشققاتها وجروحها الصغيرة، وتقول بصوت مفعم بالفخر: ” هذه يدي، وهذا رزقي.. طالما يوجد صحة، يوجد أمل”.

 

أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى