محمد جاسم.. أحلام جامعية بثياب عامل نظافة

بغداد- عباس فاضل
يستقبل محمد جاسم ليلته بعد يوم طويل، حيث يعمل في دوامه المسائي بعد انتهاء محاضرات الجامعة. يحمل على عاتقه عبء مسؤوليته تجاه نفسه وأحلامه. يعلم تمامًا أن الأماكن التي سيتوجه لتنظيفها اليوم مليئة بالنفايات، لكنه لا يأبه، لأنه يعتبر مهمته هذه شرفًا. يرافقه دائمًا سيارة الحاوية وأدواته البسيطة للتنظيف، ويرتدي ملابس تعكس شخصيته المرنة وإرادته القوية.
لا يرتدي محمد جاسم الزي التقليدي لعمال النظافة بل يكتفي بملابس عادية بسيطة تتألف من كنزة سوداء وبنطال جينز يرتديها بعد انتهاء المحاضرات وبدء ساعات العمل التي تمتد يومياً لأكثر من ست ساعات، ويرى أنه لولا هذا العمل لكانت حياته مختلفة تماماً. يقول محمد: “مهنة عامل النظافة تساعدني في الحصول على المال لتأمين احتياجاتي اليومية”، مؤكداً أن هذا العمل بالنسبة له ليس مجرد وسيلة لكسب الرزق فقط، بل خطوة مهمة لتحقيق أحلامه وتعزيز استقلاليته، ويشير إلى أنه لولا هذا العمل لكانت حياته مختلفة تماماً.
شهدت بغداد، عاصمة العراق، توسعًا عمرانياً كبيراً في السنوات الأخيرة يعود إلى عدة عوامل منها النمو السكاني المستمر، والهجرة من الريف إلى المدينة التي أصبحت واضحة في الإحصاءات الأخيرة، حيث تشير التقديرات إلى أن عدد سكان بغداد تجاوز 11 مليون نسمة مما يفرض تحديات تنموية وعمرانية غير مسبوقة على العاصمة.
وتضم العاصمة العراقية بغداد 15 دائرة بلدية، تتولى كل منها مسؤولية إدارة وتنظيم الخدمات في مناطقها المحددة. تُشرف أمانة بغداد على هذه البلديات، وتُنسق جهودها لضمان تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين.
أما فيما يتعلق بعدد عمال النظافة، فتشير التقارير إلى وجود حوالي 9 آلاف عامل نظافة يعملون في مختلف مناطق العاصمة. ومع ذلك، وبسبب التحديات المالية وتخفيض التخصيصات، اضطرت بعض الدوائر البلدية إلى تقليص أعداد عمال النظافة وتقليل الأجور اليومية للبقية، مما أثر على جودة الخدمات المقدمة.
ويجري العمل في هذه البلديات بشكل منظم، حيث يتم تقسيم فرق العمل إلى فترتين (شفتين) يُركز الشفت الصباحي على تنظيف الشوارع والساحات العامة وله دور أساسي في إبقاء الشوارع خالية من النفايات، في حين يُركز الشفت المسائي على الأعمال التي تتطلب عدداً أقل من العمال، مثل تجميع النفايات في الأحياء الهادئة.
يرتدي بعض العمال اللثام أثناء العمل لإخفاء وجوههم، وهو أمر شائع بينهم بسبب ما يواجهونه من تحديات وتنمر مجتمعي. الكثير منهم يلجأ إلى إخفاء وجهه خلال ساعات العمل، ليس فقط لحماية أنفسهم من الأوساخ والروائح الكريهة، بل أيضًا لتجنب شعورهم بالإحراج أو الخجل من أقاربهم وجيرانهم. لكن محمد يرى الأمر بشكل مختلف، فهو لا يرتدي اللثام، ويواجه نظرات الناس بابتسامة واثقة، مؤكدًا أن هذه المهنة ليس فيها ما يدعو للخجل.
يقول محمد: “أنا لا أرتدي الثام، فهذه المهنة ليس فيها عيب. أنا اخترتها من بين كل المهن، وهي أفضل بكثير من العمل لدى أحد قد يعاملني كعبد. أما عملي، فهو عمل شريف، وعند انتهاء دوامي، أقوم بتحضير واجباتي اليومية في الجامعة”.
ورغم أن محمد يتلقى محمد بعض المجاملات من المارة، إلا أنه يواجه أيضاً نظرات من يرون في عمال النظافة أشخاصاً أدنى من غيرهم. يقول: “كل جهد أبذله هو مجهود نفسي، وهذه المهنة شرف لي لكن مع ذلك هناك من ينظر إلي او يكلمني بازدراء وفوقية، وهناك من يستغرب من أني طالب جامعي وعامل نظافة في آن واحد”.
يخصص محمد جزءًا من راتبه وهو حوالي مائتي دولار امريكي لدفع الإيجار، وجزءًا آخر للاحتياجات اليومية مثل الملابس وأجور النقل إلى الجامعة. “كل قرش يتوفر لي يأتي نتيجة عملي الشاق، لذا أنا أولي أهمية كبيرة لتوفير المال لتأمين ما أحتاجه أثناء دراستي، مثل الكتب والمواد الدراسية”.
مع مرور الوقت، يدرك محمد أن العمل في البلدية شيء مؤقت، فهو يساهم في تأمين احتياجاته لكنه يُعلمه أيضًا الكثير عن الحياة والمجتمع. يشاهد يوميًا مآسي وصراعات السكان، مما يجعله أكثر وعيًا بما يدور حوله.
يقول: “في الليل، بعد يوم طويل من العمل، أعود إلى المنزل، وهو شقة صغيرة أعيش فيها مع زملائي في الجامعة. نتناول بعض الطعام، وأحيانًا أكل في طريقي لأنني متأخر عليهم، وغالبًا ما تكون الوجبات بسيطة. لكن هذا المكان بمثابة ملاذ لنا، حيث نتشارك الضحك والقصص”.
عند العطلة أو في أوقات الفراغ، يذهب محمد وأصدقائه إلى أحد المقاهي القريبة لقضاء وقت ممتع بعد أسبوع طويل من الجهد. يعتقد أن هذه الاستراحة ضرورية للهروب من ضغوط العمل والدراسة، فالحفاظ على الصحة النفسية لا يقل أهمية عن النجاح في العمل.
إلى جانب العمل، يدرك محمد أهمية التعليم. لذلك، يحرص على حضور محاضراته بانتظام، حتى وإن كان متعبًا بعد يوم عمل طويل. يعتني بكتبه وملاحظاته، ويعتبرها مفتاح مستقبله. يطمح إلى الحصول على شهادة جامعية، ويؤمن أن التعليم هو السبيل الوحيد لتحقيق أهدافه.
في ختام يومه، يُغلق محمد باب شقته، ويستعد للاسترخاء ببعض القراءة قبل النوم. يحلم بحياة مليئة بالنجاح والفرص، وبهذه الطريقة، يستمر محمد في بناء مستقبله، مستلهمًا من عزيمته وإصراره على تحسين حياته رغم كل الصعوبات.