نزوح بلا نهاية.. قصة عائلة أبو عباس بين الجفاف والشتات

أسماء الشعلان

منذ أكثر من عشرين عامًا، بدأت أم عباس وعائلتها رحلة نزوح لا نهاية لها، رحلة لم تحمل معها سوى الذكريات، والأمل الذي تلاشى مع كل قطرة ماء جفت. في عام 1996، كانت الأهوار نابضة بالحياة، حيث يعيش الصيادون جنبًا إلى جنب مع قطعان الجاموس، ويتنفسون هواءً ينساب بين عيدان القصب، لكن سرعان ما اجتاح الجفاف المنطقة، ليبدأ فصل جديد من المعاناة لعائلة أبو عباس، التي لم تجد ملاذًا مستقرًا في أي مكان آخر.

أم عباس.. صراع البقاء في وجه الجفاف

في زاوية البيت الطيني، تجلس أم عباس، تحدق بحزن في جواميسها العشر المتبقية، تلك التي تذكرها بعشرات أخرى فتك بها الجفاف والجدب. تمرر يدها بحنان على رؤوسها، وكأنها تسكب عليها عاطفتها الأخيرة، كما تحنو الأم على صغارها. رغم أنها فقدت كل شيء، إلا أنها لا تزال متشبثة بهذه البقية القليلة، كأنها آخر خيط يربطها بالحياة.

“إذا راح حلالنا.. وين نروح؟” تقولها بصوت يختلط فيه الحزن باليأس والخوف من المجهول، وهي تدرك جيدًا أن السؤال بلا إجابة. لم يكن الجفاف مجرد نكبة زراعية، بل سرق منها الأمان، وألقى بها في دوامة قلق لا تنتهي، حيث كل يوم يحمل معه هاجسًا جديدًا حول مصير عائلتها.

في لحظة صمت ثقيلة، يجلس أبو عباس أمام منزله المتهالك يحدق في بقايا قطيعه الذي كان يومًا مصدر رزقه الوحيد. بنبرة تختلط فيها الحسرة بالألم، يقول: “كان عندي أكثر من مئة رأس جاموس، واليوم لم يبقَ إلا عشرة.. تعبنا من الترحال، والغربة في بلدنا، وحلالنا يموت أمام أعيننا، بينما الحكومة لا تقدم لنا حتى العلف”.

كلمات تخرج من فمه مشبعة باليأس والمرارة، ليس فقط بسبب فقدانه لقطيعه، بل أيضًا لاندثار مساحات واسعة من القصب، ولأنواع عديدة من الطيور والأسماك التي هجرت الأهوار ولم تعد، وكأن الحياة بأكملها ترحل معها، تاركة المكان يواجه مصيره المحتوم.

لكن قصة أبو عباس ليست استثناء، بل هي صورة متكررة لمأساة آلاف الأسر التي أجبرها الجفاف القاتل على النزوح. أكثر من 52 ألف فرد من سكان الأهوار أصبحوا بلا مأوى، في واحدة من أكبر موجات النزوح القسري التي شهدتها المنطقة، في مأساة تبدو بلا نهاية.

الأطفال.. أحلام ضائعة في طريق التهجير

لم يكن التهجير مجرد تغيير في المكان، بل كان سرقة لأحلام الأبناء ومستقبلهم على حد قول الابنة الكبرى مريم. كانت مريم تحلم بإكمال دراستها، لكنها وجدت نفسها مجبورة على الزواج المبكر، لتصبح أمًا لطفلين بسبب الظروف القاسية. اليوم، وهي في العشرين من عمرها، تحمل في قلبها غصة على حلم لم يكتمل.

“كان عندي أكثر من مئة رأس جاموس، واليوم لم يبقَ إلا عشرة.. تعبنا من الترحال، والغربة في بلدنا، وحلالنا يموت أمام أعيننا، بينما الحكومة لا تقدم لنا حتى العلف”.

أما زهراء (18 عامًا)، فلم يكن مصيرها أفضل من شقيقتها، فقد كانت تمضي ساعات طويلة في مساعدة والدها بجلب العلف والماء لقطيع الجاموس من مسافات بعيدة، قبل أن تنتهي بها الحال إلى الزواج المبكر، لتُدفن أحلامها تحت وطأة الواقع القاسي.

في المقابل، تعيش نرجس (9 سنوات) وفضة (8 سنوات) في خوف دائم من أن يأتي دورهما، تقول نرجس وهي تمسك بحقيبتها المدرسية بقوة، كأنها تخشى أن تُنتزع منها: “كل ما ننتقل لمكان جديد، نترك المدرسة.. خايفة يوم من الأيام ما أرجع لها أبدًا”.

أما عباس (16 عامًا)، فقد أصبح رجلًا قبل أوانه، إذ اضطر إلى ترك الدراسة والعمل لإعالة أسرته، يقول: “ما أذكر آخر مرة لعبت مثل الأطفال.. كل يوم أفكر وين راح نكون بعد سنة؟ مليت من هذا الترحال.. أتمنى أستقر في بغداد أو كربلاء وأشتغل أي شغل غير هذا الشغل اللي يتعب”.

الأسباب الحقيقية وراء الكارثة

لم يكن الجفاف وحده السبب في المأساة التي يعيشها سكان الأهوار بل جاءت عوامل أخرى لتعمّق الأزمة وتجعلها أكثر تعقيدًا وفقًا للخبير البيئي إياد الاسدي. 

ففي الوقت الذي كانت فيه هذه المسطحات المائية تمد سكانها بالحياة أصبحت اليوم تبتلع أحلامهم بفعل مشاريع السدود التي أقامتها دول الجوار، والتي خفذت منسوب المياه وزادت من ملوحة التربة.

كما ان التغيرات المناخية جاءت لتزيد الطين بلّة، إذ تراجع منسوب الأمطار، وارتفعت درجات الحرارة، فازدادت رقعة الجفاف واتسع حجم الكارثة، يوضح الأسدي. 

ومع تقلص المياه، بدأ التنوع البيئي في الأهوار يتلاشى، فاختفت الأسماك وهاجرت الطيور، وتراجع الإنتاج، لتجد العائلات نفسها بلا مصدر رزق، مجبرة على ترك أراضيها بحثًا عن حياة بديلة.

“كل ما ننتقل لمكان جديد، نترك المدرسة.. خايفة يوم من الأيام ما أرجع لها أبدًا”.

“هذا النزوح الجماعي المستمر أصبح واقعًا مأساويًا” يؤكد ليث الدخيلي، مسؤول الهجرة والمهجرين في ذي قار، كاشفاً أن أكثر من 10 آلاف عائلة اضطروا إلى مغادرة الأهوار والأرياف في السنوات الأربعة الاخيرة بسبب الجفاف والتغيرات المناخية. ومع تزايد أعداد النازحين، تحاول الجهات المعنية تقديم المساعدات الإنسانية، لكن الخيام والمواد الغذائية لا يمكنها أن تعوّض فقدان البيوت، ولا أن تضمن لقمة العيش لأسر فقدت كل شيء. 

“المساعدات التي نقدمها لا تلبي احتياجات هذه العوائل التي فقدت مصدر رزقها، وإذا لم يتم اتخاذ خطوات حقيقية، سنشهد موجات نزوح أكبر في المستقبل” يقول الدخيلي.

وكانت الأهوار قد شهدت خلال العقود الأخيرة عدة موجات نزوح، خاصة منذ التسعينيات، عندما بدأ تجفيف مساحات واسعة منها، ما أدى إلى تهجير أكثر من 250 ألف شخص من سكانها الأصليين إلى مناطق أخرى داخل العراق أو إلى دول مجاورة. 

ومع تفاقم أزمة شح المياه والتغيرات المناخية في السنوات الأخيرة، تصاعدت أعداد النازحين مجددًا، حيث تؤكد تقارير رسمية أن أكثر من 52 ألف شخص اضطروا إلى مغادرة الأهوار بين 2020 و2024 بسبب الجفاف الحاد وانعدام مصادر الرزق. بينما تواجه العائلات التي بقيت ظروفًا معيشية صعبة.

حلول مقترحة لوقف النزوح

رغم قتامة المشهد، إلا أن هناك حلولا قد تساعد في إنقاذ ما تبقى من الأهوار، حيث أكد حيدر السعدي، مسؤول شؤون المواطنين في ذي قار، أن معالجة الأزمة تتطلب إجراءات عاجلة وشاملة، مشيرا إلى أن الحل يبدأ بإدارة أفضل للمياه عبر اتفاقيات دولية تضمن وصول حصة عادلة من المياه إلى العراق، ما يسهم في إعادة إحياء الأهوار وتقليل موجات النزوح.

وأضاف السعدي أن تقديم برامج دعم للسكان المحليين، تشمل توفير فرص عمل بديلة، أصبح ضرورة ملحة لضمان استقرار العائلات التي فقدت مصدر رزقها. كما شدد على أهمية الاستثمار في مشاريع تحلية المياه، معتبرا أنها أحد الحلول الفعالة لإنقاذ ما تبقى من الحياة في الأهوار.

أما فيما يخص الأطفال النازحين، فقد أكد السعدي على ضرورة إنشاء مدارس متنقلة، لضمان استمرار تعليمهم وعدم انقطاعهم عن الدراسة بسبب النزوح المستمر، مشيرا إلى أن فقدان التعليم يهدد جيلا كاملا ويزيد من تفاقم الأزمة الاجتماعية في المستقبل.

 الأهوار بين الماضي والمستقبل

كانت الأهوار العراقية موطنًا لتنوع بيئي فريد، حيث احتضنت أكثر من 250 نوعًا من الطيور، منها أبو منجل المقدس والرفراف والغطاس الصغير إضافة إلى أنواع نادرة مثل الحبارى. كما كانت موطنًا لأكثر من 40 نوعًا من الأسماك، من بينها سمك البني والكطان والجري النهري التي شكلت مصدر رزق رئيسي لسكان المنطقة. لكن مع تراجع منسوب المياه تضاءلت أعداد هذه الأنواع بشكل حاد، مما أدى إلى اختلال النظام البيئي وهجرة العديد من الطيور والأسماك من موائلها الطبيعية.

عائلة أبو عباس عاشت في تلك الأيام حياة بسيطة لكنها مستقرة. كان الصيادون يخرجون مع أول ضوء للفجر، والجاموس يرعى في المراعي المائية، فيما تتصاعد رائحة القهوة من بيوت القصب، معلنة بداية يوم جديد. لكن هذه الحياة لم تدم طويلًا، فقد أدى الجفاف إلى اندثار أكثر من 92% من الأهوار، ليتحول الماء إلى أرض متشققة، ويصبح القصب مجرد بقايا يابسة، مما جعل الحياة هناك أكثر صعوبة، إن لم تكن مستحيلة.

لم تكن عائلة أبو عباس وحدها في مواجهة هذا المصير، فآلاف العائلات فقدت مصادر رزقها، ووجدت نفسها مضطرة إلى النزوح، بينما تبقى آمال العودة قائمة رغم ضبابية المستقبل.

كانت الأهوار العراقية موطنًا لتنوع بيئي فريد، حيث احتضنت أكثر من 250 نوعًا من الطيور و 40 نوعًا من الأسماك

في زاوية المنزل، تجلس نرجس وفضة، تتحدثان عن رغبتهما في البقاء، لكن الخوف من المجهول ينعكس في ملامح وجهها. إلى جوارهما، تجلس أم عباس، تراقب ما تبقى من قطيعها، بينما تتطلع إلى السماء، تأمل ألا تفقد المزيد.

المستقبل يبدو غير محسوم، فإما أن تنجح الحلول الجذرية في إنقاذ الأهوار وإعادتها إلى الحياة، أو تظل مجرد ذكرى ماضية، تُروى للأجيال القادمة عن أرض كانت يومًا نابضة بالحياة، قبل أن يتحول الماء إلى سراب، والهجرة إلى واقع لا مفر منه.

 

تنشر هذه القصة ضمن مشروع مشترك مع مؤسسة تاتز بانتر الالمانية لدعم الصحافة البيئة في الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى