قبل التهاني.. العراقيون يبدأون عيدهم مع الراحلين

فاطمة كريم _النجف
مع أول خيوط الصباح، حين تعج الشوارع بمكبرات الصوت التي تنادي “الله أكبر، الله أكبر” لصلاة العيد، تستعد أم ياسين ليومها بطريقتها الخاصة. ترتدي عباءتها السوداء، تجهّز أولادها الثلاثة وتحمل معها بعض من أغصان إلياس والتمر وزجاجة ماء متوجهة إلى قبر زوجها الذي فقدته منذ تسع سنوات.
ام ياسين سيدة في الـ 42 من عمرها تسكن في محافظة النجف وهي ام لثلاث اولاد ترعاهم مفردها بعد أن حصدت الحرب روح زوجها منذ تسعة أعوام، ” خلال حرب العراق ضد تنظيم داعش الإرهابي فقدت زوجي ذهب شهيدا تارك لي مسؤولية كبيرة، وها أنا اذهب له صباح كل عيد حتى اقول له سيبقى ذكرك خالد في قلوبنا ” تقولها وهي تمسح دموعها من خديها.
تمسك ام ياسين يد طفلها الأصغر، بينما يسير أبناؤها الآخرون خلفها بصمت، وكأنهم يعرفون طريقهم جيدًا. ليست هذه المرة الأولى التي يقفون فيها أمام قبر والدهم صباح العيد، لكنها في كل مرة تحمل لهم ذات الحزن، وذات الأمنية المتكررة: “ليته كان هنا ليعانقنا كما يفعل آباء الآخرين”.
بخطوات بطيئة، تصل الى لقبر ثم تجلس على الأرض ، تمرر يدها على الحجر البارد، ثم تنحني لتقرأ الفاتحة، ودموعها تنساب بلا مقاومة. من حولها، أبناؤها الثلاثة ينظرون إلى اسم والدهم المحفور، تتشابك أصابعهم الصغيرة وكأنهم يستمدون القوة من بعضهم البعض.
في صباح عيد الفطر، لا تبدأ احتفالات العراقيين كما في بقية الدول الإسلامية بالتهاني فقط، بل تأخذ طابعًا مختلفًا، يحمل في طياته مزيجًا من الفرح والحنين. فبعد أداء صلاة العيد، تتجه العائلات نحو المقابر، حيث يرقد الأحبة الذين غابوا عن مائدة العيد، لكنهم لم يغيبوا عن القلوب.
تمثل هذه العادة ارتباطًا عميقًا بالجذور والقيم العائلية، إذ يؤمن العراقيون بأن زيارة القبور في الأعياد ليست مجرد تقليد، بل هي رسالة وفاء وتقدير للراحلين.
مع اقتراب العيد، تبدأ العائلات بتحضير ما يلزم للزيارة. البعض يشتري الرياحين والزهور، فيما يحرص آخرون على جلب التمر والماء، ليتم توزيعه صدقةً على أرواح الموتى. في بعض المناطق، تحضر العائلات الفطور معها إلى المقبرة، فتجتمع عند القبور، تقرأ القرآن، وتتذكر الأوقات التي جمعتهم بمن رحلوا.
ابو علي، رجل في الثلاثينات من عمره يمتلك احد الاكشاك الصغيرة داخل مقبرة والدي السلام في النجف، يبيع ابو علي الزهور و الرياحين وماء الورد للزوار الذين يشترون أكاليل صغيرة توضع على قبور احبائهم ، يقول أبو علي وهو يرتب قناتي ماء الورد على الأرصفة ” يزداد اقبال الناس على المقبرة في الأعياد فقد يأتون إلى معايدة احبائهم ويحيون ذكراهم وهذه العادة موجودة في مجتمعنا منذ القدم”.
منذ كان طفلا في العاشرة من عمرة يعمل ابو علي مع والده في المهنة ذاتها واخذها عنه، لكنه فقده قبل أربعة سنوات عندما اجتاح فايروس كورونا العالم، يقول” كانت تأتي الكثير من الجنائز المصابة بالفايروس ونحن لا نعلم بها، حتى أصيب ابي ودفن في المكان الذي كان يعمل فيه” يواصل حديثة “تأتي جدتي و وامي إلى قبر والدي في صبح العيد بعد الأذان مباشرتا مهما كلفنا الأمر لا نتخلى عن هذه الزيارة ابدا”.
شهد العراق في العقود الأخيرة ارتفاعًا ملحوظًا في أعداد الوفيات، نتيجة لتوالي الأزمات والحروب والأوبئة التي أثرت بشكل كبير على المجتمع العراقي، منذ عام 2014 وحتى إعلان النصر على التنظيم في كانون الأول 2017 ، خاض العراق معارك شرسة ضد تنظيم “داعش”.
ورغم عدم توفر إحصائيات دقيقة لعدد الضحايا، إلا أن التقديرات تشير إلى سقوط آلاف القتلى من المدنيين والعسكريين خلال هذه الفترة، فعلى سبيل المثال، قدر عدد الضحايا المدنيين الذين لقوا حتفهم جراء الضربات الجوية ضد داعش بين عامي 2014 و 2015 بأكثر من 4,000 مدني في العراق.
مع ظهور جائحة كورونا في عام 2020، واجه العراق تحديًا صحيًا ملحوظًا، مما أدى إلى زيادة في عدد القتلى. في مقبرة وادي السلام بالنجف، على سبيل المثال، تم دفن ما بين خمسة إلى ستة آلاف جنازة خلال عام واحد بسبب الفيروس.
بسبب ازدياد اعداد الوفيات في العراق أصبح يمتلك أكبر مقبرة في العالم، تعد مقبرة وادي السلام في النجف من أكبر المقابر في العالم، حيث تمتد على مساحة تزيد عن 10 كيلومترات مربعة وتضم ملايين القبور التي تعود لمختلف العصور، تستقبل المقبرة ملايين الزوار سنويًا، خاصة خلال المناسبات الدينية والأعياد لتصبح شاهدًا على تلك الفترات العصيبة من تاريخ البلاد.
تسترجع أم ياسين ذكرياتها، حين كانت طفلة صغيرة تمسك بيد والدتها، متجهة إلى قبر جدها بعد صلاة العيد. كان المشهد ذاته: العائلة تتجمع، تقرأ الفاتحة، توزع الطعام، وتتذكر فقيدها، “هذه العادة لدينا منذ أن وعيت على العالم، كانت أمي تأخذنا إلى جدي، نقرأ له الفاتحة ونزور كل من فقدناه. الموت ليس نهاية العلاقة، بل هو بداية ذكرى لا تفارقنا، خاصة في أيام مثل هذه، حيث نشعر بالفراغ أكثر من أي وقت آخر.”، تحمل التمر بين يديها، تقرأ عليه بعض الآيات ثم توزعه على الفقراء والمارة في المقبرة، كما اعتادت أن تفعل كل عام، وكما كانت أمها تفعل قبلها.
وفي النهاية، تغادر العائلات المقابر إلى بيوتها، بعضها بابتسامة هادئة، وأخرى بعيون ما زالت تحمل أثراً من الدموع، لكنها جميعًا تحمل شعورًا واحدًا، أن العيد لا يكون عيدًا دون أن يهدى السلام لمن كانوا يومًا جزءًا منه. أما أم ياسين، فتخرج من المقبرة كما دخلتها، لكن هذه المرة بخطوات أكثر ثباتًا، وهي تحمل ذاكرة رجل لم يغب عنها أبدًا، حتى وإن كان تحت التراب.