كرسيّ متحرّك وحكومات لا تتحرّك: عن إقصاء ذوي الإعاقة في العراق

فاطمة كريم – بغداد
في إحدى عمارات بغداد القديمة، وتحديدًا في الطابق الثالث من مبنى سكني يخلو من مصاعد أو ممرات مخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة، تبدأ يوميًا معاناة الطفلة “بنين” ووالدتها، التي أصبحت كتفاها بمثابة كرسي تجلس عليه الطفلة.
“أم بنين”، سيدة في الخامسة والثلاثين من عمرها تقيم في العاصمة بغداد، أنجبت طفلة مصابة بضمور في الدماغ أثّر على أطرافها السفلية، فلم تعد قادرة على الحركة أو الكلام، فصار جسد “بنين” الصغير رهينًا لذراعي والدتها حتى بلغت الثانية عشرة من عمرها. تقول أم بنين: “في كل مرة أضطر لحملها بين ذراعي أشعر أن العالم كله يغلق أبوابه في وجهي”.
رحلة بنين ووالدتها نحو التشخيص والعلاج لم تكن سهلة أبدًا، فالعراق الذي لا يزال يعاني من هشاشة في نظامه الصحي خذلهما منذ البداية على حد قولها.
تروي الأم بمرارة: “لم نجد طبيبًا كفؤًا يشخص حالة ابنتي بدقة.. استنزفنا الوقت والمال في مراجعة الأطباء دون جدوى، بينما كانت حالة بنين تتدهور أمام أعيننا”.
وتضيف وكأنها تحاول كتم غصّة الألم: “كنا ننتقل من مستشفى إلى آخر، لا يوجد أي وسائل تحفظ كرامة ابنتي. لا تتوفر كراسي للأطفال فجميعها مخصصة لمن هم في سن العشرين فما فوق مما اضطرني إلى حملها”.
في المستشفيات لم تكن الصورة أفضل، فمعظم المؤسسات الصحية تفتقر إلى مداخل مهيأة للكراسي المتحركة كما لا توفر أماكن انتظار أو فحص مناسبة، ويتكرر المشهد المؤلم كما تصفه أم بنين: “حتى أماكن الانتظار صغيرة ولا تستوعب الكراسي الخاصة، والدرج يتحول إلى عقبة في كل مرة”.
المعاناة لا تقتصر على المرافق الصحية فقط، فداخل العمارة السكنية حيث لا يوجد مصعد ولا ممرات مهيأة يتحول كل نزول إلى الشارع إلى اختبار قاسٍ لإرادة الأم.
تصف الوضع قائلة: “أنا وزوجي نحمل بنين والكرسي الخاص بها معًا. أحيانًا أضطر لطلب المساعدة من الجيران أو المارة، فلا خيار أمامنا سوى الاعتماد على العون البشري”.
تواجه أم بنين أيضًا تعقيدات إدارية مرهقة، فالدائرة المسؤولة عن صرف المخصصات المالية تُصر على حضور بنين شخصيًا في كل مرة، رغم معرفة الجميع بأن المكان يفتقر لأبسط التسهيلات التي تراعي ظروف ذوي الإعاقة. تقول: “يطالبونني بإحضارها إلى الدائرة، والمكان نفسه لا يصلح حتى للأشخاص الأصحاء، فكيف بطفلة مثل بنين؟”.
ورغم أن القوانين العراقية تضمن لذوي الاحتياجات الخاصة حق العيش الكريم وتوفير ما يلزم من خدمات وتسهيلات، فإن التنفيذ يكاد يكون غائبًا أو في أحسن الأحوال ضعيفًا. فلا توجد مدارس كافية متخصصة تستوعب قدراتهم واحتياجاتهم، ولا كوادر تعليمية مؤهلة ترافقهم في رحلتهم التعليمية الصعبة.
معاناة بنين لم تتوقف عند الطرقات الوعرة أو غياب الخدمات الصحية، بل امتدت إلى التعليم، فقد تأخرت عن الالتحاق بالمدرسة لمدة عامين كاملين، ببساطة لأن المدارس الحكومية المخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة كانت شبه معدومة في منطقتها.
لجأت عائلة بنين إلى تسجيلها في مدرسة أهلية (الخاصة) ما زاد من الأعباء الثقيلة على كاهل والديها، وبدل أن تكون المدرسة وسيلة لتخفيف معاناتهم تحولت إلى مصدر قلق إضافي. فالمناهج الدراسية معقدة وغير مهيأة لطلاب مثل بنين، ولا توجد برامج تعليمية مصممة لهم.
تقول أم بنين: “المنهج صعب جدًا عليها، لا يراعون ظروف الأطفال الصحيّة ولا قدرتهم على الاستيعاب. نحن لا نريد ترفًا تعليميًا، فقط منهج مناسب”.
في إحدى زوايا هيئة رعاية ذوي الإعاقة، يجلس حسين أورهان عبد اللطيف، رجل يحمل في قلبه طاقة أكبر من حدود الجدران التي تحيط به. منذ طفولته كانت الحياة قاسية عليه حين فقد أطرافه السفلية واضطر للجلوس على كرسي متحرك، لكنه لم يسمح يومًا لهذا الكرسي أن يحدد مسار مستقبله أو يقيد طموحه.
“كنت دائمًا مؤمنًا أن الإعاقة الحقيقية هي استسلام الإنسان لظروفه وليس فقدان جزء من جسده”، يقول حسين بنبرة يملؤها الإصرار وهو يتحدث عن رحلته الطويلة في التعليم والعمل.
لم تكن طريقه سهلة، فقد واجه صعوبات عديدة في بيئة غير مهيأة له كطالب ولاحقًا كموظف، لكنه تجاوز كل العقبات بعزيمته. أكمل دراسته بإصرار، حتى وصل اليوم إلى موقع يستطيع من خلاله أن يكون صوتًا لمن لا يُسمَع، فقد أصبح موظفًا في هيئة رعاية ذوي الإعاقة، يحمل هموم أبناء فئته ويسعى لتحويلها إلى خطوات ملموسة.
يقول حسين بفخر: “أنا أكثر من يعرف احتياجاتنا، لأنني أعيشها كل يوم. أحاول بكل جهدي أن أساهم في توفير أبسط الأمور التي يمكن أن تجعل حياة ذوي الإعاقة أكثر كرامة”.
يذكر حسين “للمنصة” رقمًا صادمًا يوضح حجم التحدي الذي يواجهه البلد: “في العراق، هناك أكثر من خمسة ملايين شخص من ذوي الإعاقة، وهذه الفئة الكبيرة تستحق أن تأخذ مكانها الحقيقي في المجتمع، في التعليم، في العمل، وفي كل تفاصيل الحياة”.
حسين كغيره من ذوي الإعاقة يشعر بالمرارة حين يتحدث عن البنية التحتية المتهالكة في العراق. “منذ القدم والبنية التحتية في العراق لم تكن صديقة لذوي الإعاقة، وحتى اليوم، رغم كل مشاريع الإعمار التي نسمع عنها، لا تزال هذه الفئة مهمشة في التصميم والتنفيذ. لا مواقف سيارات مخصصة، لا أماكن استراحة لائقة، لا ممرات آمنة، ولا وسائل نقل مناسبة. في الدول المتقدمة، نجد كل شيء مصممًا لخدمة الإنسان مهما كانت احتياجاته، بينما هنا ما زلنا نحلم بأبسط الحقوق”.
علي محمود، مدير منظمة أفق السلام للتنمية وحقوق الإنسان، يقول: “العراق بحاجة ماسة إلى نهج شامل يدمج ذوي الإعاقة في جميع جوانب الحياة: من التعليم، إلى فرص العمل، إلى الوصول إلى المرافق العامة. نحن نلاحظ غيابًا واضحًا لخطط التنمية التي تراعي ذوي الإعاقة، وحتى في مشاريع البنية التحتية الجديدة، لا توجد مراعاة لمتطلباتهم الأساسية. هذا تهميش غير مقبول، ونحن نواصل الضغط على صانعي القرار لتغيير هذا الواقع”.
ويضيف: “نذكّر الحكومة والجهات المعنية بأن ذوي الإعاقة ليسوا عبئًا على المجتمع، بل قوة كامنة قادرة على الإسهام الفعال في التنمية إذا توفرت لهم البيئة الداعمة. غياب المصاعد، غياب الممرات، قلة وسائل النقل الملائمة، وارتفاع تكاليف العلاج والتعليم كلها أمور تعرقل حياة الملايين من العراقيين. نحن مستمرون في حملاتنا للضغط من أجل التغيير”.
بنين وحسين يمثلان معًا صورة مصغرة لمعاناة آلاف العراقيين من ذوي الإعاقة الذين يحلمون بممرات آمنة ومدارس مهيأة ووسائل نقل ملائمة، وقلوب تفهم أن الإعاقة ليست نهاية الحياة بل بداية معركة أخرى مع مجتمع ونظام بحاجة إلى أن يرى بعين أكثر إنصافًا.