سيدة عراقية تتبنى العمل بالطاقة النظيفة وتصدر مجلة للأطفال حولها

بغداد- فاطمة كريم
في زاوية هادئة من مختبر جامعي، وبين أكوام الكتب والأجهزة المعقدة، كانت الدكتورة اماني التميمي تكتب المستقبل. لم تكن تبحث عن براءة اختراع، ولا عن شهرة أكاديمية، بل عن إجابة واحدة: كيف نحمي كوكبنا من الانهيار؟
أماني إبراهيم التميمي خبيرة في مجال الطاقة المتجددة، وتشغل منصبا أكاديميا بارزا في جامعة الكرخ للعلوم التي تقع في شارع حيفا ببغداد، تحمل شهادة الدكتوراه في اختصاص الطاقة النظيفة، وهي من أوائل الباحثين الذين اهتموا بهذا المجال في العراق، تقول التميمي “في وقت لم يكن فيه الحديث عن التغير المناخي شائعًا، ولا الطاقة المتجددة أولوية، كنت أحاول تأسيس وعي جديد للمجتمع يؤمن بأن البيئة ليست موضوعًا هامشيًا بل أساس الحياة”.
منذ لحظة دخولها عالم البحث العلمي، انشغلت بقضايا الطاقة النظيفة والتغيرات المناخية، رغم أن المجتمع الأكاديمي والمؤسسات المعنية حينها لم يعيروا اهتماما فعليا بهذه القضايا في الوقت السابق، ومع ذلك واصلت تقديم البحوث التي استشرفت مستقبل الطاقة المستدامة في العراق والمنطقة، وتحملت معارضة من بعض الجهات التي لم تكن تؤمن بإمكانية تطبيق تلك الرؤى.
الشغف يتحول الى رسالة حياة
أشرفت السيدة البغدادية خلال مسيرتها الأكاديمية على أكثر من ثلاثين بحثًا لطلبة الماجستير والدكتوراه، شاركتهم خلالها خبراتها العلمية وسعت لغرس إيمانها بقضية البيئة والطاقة النظيفة في عقول الأجيال القادمة.
في محطة مهمة من مسيرتها تسلمت منصب عميد كلية علوم الطاقة، تتحدث عن تلك المرحلة من حياتها وتقول “كانت الكلية تقع في منطقة ابو غريب على أطراف محافظة بغداد قبل أن تفتح فرعها الجديد داخل العاصمة وكانت تبعد عن منزلي مسافة بعيدة، لم تعيقني الصعاب عن تقديم العطاء للطلبة والسعي إلى تطوير الكلية لتكن نموذجا مستدام يحتذى به”.
تركت اماني بصمة واضحة، إذ قادت مشروعا تحولت فيه الكلية إلى نموذج مصغر للاعتماد على الألواح الشمسية في إنتاج الطاقة الكهربائية، مستثمرة طاقات الطلبة لإنجاح هذا الإنجاز البيئي الفريد.
من مقاعد الدراسة إلى سوق العمل
محمد علي، أحد خريجي قسم الطاقة المتجددة، كان أحد طلاب الدكتورة أماني التميمي، ويصف لقائه الأول بها بأنه نقطة تحول في حياته العلمية والعملية، يقول”كنت أبحث عن مسار واضح في مجال الطاقة لكنني لم أكن أمتلك البوصلة حتى دخلت محاضراتها هي ليست استاذتي فحسب، بل مصدر إلهام لطلابها”.
تحت إشرافها، أنجز محمد مشروع تخرجه حول تصميم نظام طاقة شمسية متكامل للمناطق الريفية في العراق، وهو مشروع حصل على إشادة واسعة داخل الجامعة وخارجها، وتم ترشيحه للعرض في إحدى الفعاليات البيئية التي نظمتها وزارة الكهرباء، وهو ما فتح له أبوابا جديدة في سوق العمل.
يتحدث محمد عن الدكتورة اماني قائلا “الدكتورة لم تكن تكتفي بتعليمنا النظريات، كانت تؤمن بأننا الجيل القادر على التغيير، وكانت تزرع فينا هذا الإيمان كل يوم خلال محاضراتها ” ويضيف “كانت ترسل لنا فرص تدريب خارج أوقات الدوام، تتابع معنا تفاصيل مشاريعنا، وتشجعنا على التقديم لأي مؤتمر أو مسابقة، مهما كانت بسيطة”.
بعد التخرج، تلقى محمد عرضا من شركة هندسية متخصصة في الطاقة الشمسية، وسرعان ما أصبح أحد المهندسين المعتمدين لديها في تنفيذ مشاريع بيئية داخل العراق، منها تزويد مدارس ومراكز صحية والابنية والارياف بأنظمة طاقة شمسية مستدامة، ويقول “حصلت على فرصة ممتازة في مجال تخصصي و كنت احد ثمار الدكتورة التي طالما ارشدتنا إلى الطريق الأخضر”.
زينب حيدر، طالبة في قسم الطاقة والبيئة بفرع كلية العلوم في منطقة أبو غريب، منذ خطواتها الأولى في القاعة الدراسية، لمحت الدكتورة أماني في زينب شيئًا خاصا، كانت متفوقة، دقيقة، ومؤمنة بمستقبل الطاقة النظيفة في العراق، رغم محدودية الإمكانات، “كنت أرى في عينيها إصرارا لا يشبه أحد، كانت تسأل كثيرا داخل المحاضرات ولكنها كانت تسأل لتفهم، لتتقن، ولتبدع” هكذا تتحدث الدكتورة أماني عن بدايات طالبتها المجدة.
تفوقت زينب في دراستها، وكانت من أوائل الدفعة، ما جعل اسمها يتردد كثيرا في أروقة القسم، وبعد سنوات من التخرج، ومع إنشاء مجمع جديد لكلية العلوم، فتحت أبواب جديدة أمام الشابة لم تكن تتوقعها، كانت أول من وقع عليه الاختيار لتولي وظيفة إدارية داخل الكلية، وتحديدا في القسم الذي كانت طالبة فيه.
“حين استلمت كتاب التعيين، لم أُصدق أنني سأعمل في نفس المكان الذي كنت أدرس فيه وأسهر على مشاريعي بجانب استاذتي لكن ليس كطالبة بل كزميلة في الفريق”، تقول زينب بعينين تلمعان بالفخر.
اليوم تعمل زينب حيدر في القسم ذاته إلى جانب ملهمتها، وتشارك في تنظيم الفعاليات البيئية والمؤتمرات التي تعزز من مفهوم الطاقة المتجددة داخل الكلية، لا تزال تقتبس من محاضرات الدكتورة ما تعتمده في تعاملها مع الطلبة الجدد، وتراها قدوة ليس فقط علميا، بل إنسانيًا أيضا.
توعية الأطفال
في عام 2018، اختارت الدكتورة أماني التميمي أن تتوجه برسالتها البيئية نحو الفئة الأهم في بناء المستقبل وهم الأطفال، وتقول “يهمني جداً أن ينشأ الطفل على مبادئ الاهتمام بالبيئة والمناخ، وأن يكون له وعي ودراية بهذا الموضوع من أجل الحفاظ على بيئتنا”.
هذا الإيمان العميق دفعها لتأليف كراسة تعليمية خاصة بالأطفال، قدمت فيها شرحا مبسطا وممتعا لمفاهيم الطاقة المتجددة، أهميتها، وأنواعها، مستخدمة أسلوبا سلسا ولغتين هما العربية والإنكليزية لضمان الوصول إلى شريحة أوسع من التلاميذ.
لم تنتظر تمويلاً أو دعماً من جهة رسمية، بل تولت تمويل المشروع بالكامل من مالها الخاص، وصممت الكراسة بعناية لتكون جاذبة بصريًا وسهلة الفهم. وزعت نسخا منها مجانا على المدارس، لا سيما في المناطق الفقيرة والأحياء النائية، حيث غالبا ما يكون الوصول إلى المعرفة البيئية محدودا.
بعدما نجحت في الوصول إلى الأطفال عبر كراستها التعليمية، أدركت الدكتورة أماني التميمي أن رسالتها البيئية لا يجب أن تبقى حبيسة الصفوف الدراسية أو القاعات الجامعية، فقد آمنت أن “البيئة مسؤولية الجميع”، وأن من حق كل فرد سواء كان طالبا أو عاملا أو ربة منزل أن يعرف ما يحدث في كوكبنا وأن يتعلم كيف يساهم في إنقاذه.
ومن هنا، خطت خطوة جديدة نحو الجمهور الأوسع، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حيث أنشأت حسابات رسمية لها على منصات مثل إنستغرام وفيسبوك، بدأت من خلالها بنشر محتوى بيئي توعوي بأسلوب حديث وجذاب، لم تكن مجرد منشورات، بل فيديوهات تعليمية مصورة بعناية، تحمل معلومات دقيقة وموثقة، تشرح فيها أهمية التحول إلى الطاقة النظيفة، وتبرز قيمة التشجير، وتحث على إعادة التدوير.
لاقى هذا التوجه صدى واسعاً. فكانت التفاعلات الإيجابية كبيرة والتعليقات المشجعة من الناس واضحة، ورغم بساطة الإمكانات، تمكنت الدكتورة أماني من إنتاج محتوى عالي الجودة، مستخدمة أدوات تصوير ومونتاج من تمويلها الخاص، لتثبت مرة أخرى أن الشغف بالفكرة وحده قادر على صناعة التغيير، ولو من شاشة هاتف.
قلم يزرع الأمل
وسط زحام العالم الرقمي وضجيج المبادرات العابرة، أرادت الدكتورة أماني التميمي أن تحدث فرقا حقيقيًا، لا في المختبرات فقط، بل في يد كل إنسان. لم تكن الفكرة ضخمة إذ تقول “فلنبدأ من شيء بسيط.. شيء يمكن أن يحمله الطالب، يضعه في جيبه، ويزرعه في قلب المدينة بعد أن ينتهي منه.”
هكذا، ولد القلم الأخضر منتج صديق للبيئة، يحمل في نهايته بذور أشجار معمرة ويصنع بالكامل من مواد قابلة للتحلل تم تنفيذ الفكرة بالتعاون مع مصنع في الهند، بتمويل شخصي من الدكتورة التي تابعت كل تفاصيل المشروع، من اختيار نوعية البذور إلى التغليف الأخير.
تتحدث الدكتورة اماني عن المنتج قائلة “الفائدة مزدوجة، تقليل استخدام البلاستيك الضار، وزيادة المساحات الخضراء التي تساهم في تنقية الهواء ومحاربة التلوث” لاقى المنتج رواجًا واسعًا، خاصة بين الشباب والطلبة.
تسعى الدكتورة اماني التميمي بكل طاقتها لأن تصنع فرقا حقيقيًا في وعي الأجيال، وأن تزرع في نفوسهم حب الأرض، والشعور بالمسؤولية نحوها، رحلتها ليست فقط قصة نجاح بل قصة إلهام تعلمنا أن لا شيء يقف أمام الإيمان بالفكرة، وأن العمل من أجل البيئة ليس رفاهية، بل مسؤولية أخلاقية، تبدأ من الفرد لتشمل العالم بأسره.
أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)