مقالع حصى ومصبات مجاري ومخلفات السكان تدمر بيئة دجلة

بغداد- جرجس توما
“حتى النهر لم يسلم منهم”، هذا ما قاله “وليد حكمت” (63 سنة) وهو يستند بيديه على سياج المشاة وسط (الجسر العتيق) على نهر دجلة في قلب مدينة الموصل (405 كم شمال بغداد).
ثم يشير بيديه الى ما تشبه البرك الكبيرة في حوض النهر وعلى ضفته القريبة: “هذه اثار مقالع الحصى التي شوهت النهر”. ويضيف الى ذلك:”وهنالك مصبات مياه المجاري التي ترمي بأثقالها في النهر كل يوم، وايضاً النفايات التي تلقى على الضفتين، وتجاوزات البناء هناك”.
اعتاد وليد، ولأكثر من أربعة عقود، على قطع الجسر مشياً على الاقدام في طريق ذهابه من محل سكناه في باب لكش بالجانب الأيمن وعودته من متجره الصغير للمواد الغذائية في منطقة الفيصلية بالجانب الأيسر.
لذا فهو يعد نفسه من الخبراء بنهر دجلة وما طرأ عليه من تغيرات دائمة طوال خمسة عقود، او تغييرات مؤقتة وعابرة تحدث بسبب قلة المياه أو زيادتها، يقول وهو يزم شفتيه بينما تنقبض تقاطيع وجهه:”كل ما واجهه نهر دجلة قبل تحرير الموصل من داعش في 2017 في كفة، وما حدث له بعدها في كفة أخرى”.
ويوضح ما يقصده ويده موجهة نحو الضفة اليمنى حيث البلدة القديمة التي كانت مسرحا للدمار خلال الحرب ضد داعش (2014-2017):”القيت فيه انقاض الأبنية المدمرة، وكانت هنالك جثث على ضفافه وبين الركام بقيت لأسابيع، وتسابقت العشرات من مقالع الحصى والرمل لتنهش مجراه حتى تغير، وبنيت الكازينوهات والمطاعم على ضفته اليسرى كل ذلك دون مراعاة المتطلبات البيئية”.
يبدو عليه الوجوم وهو يتابع جريان الماء:”عندما تقل المياه في الصيف، تظهر التشوهات في النهر بشكل اوضح، انه مريض وحزين، ويحتاج الى حماية حكومية”.
النبرة العاطفية التي تحدث بها “وليد حكمت”، هي ذاتها التي يمكن ان تستمع اليها في الموصل عندما يدور الحديث عن نهر دجلة، فهو لم يعد وخصوصا بالنسبة لكبار السن، كسابق عهده يجري بمياه نقية فائضة تتزاحم فيها الأسماك، فالأخيرة تقلصت انواعها واعدادها بنحو كبيرة بسبب التجاوزات والصيد الجائر.
قائمة الاسباب التي أدت الى ما آل اليه نهر دجلة، تتضمن مصبات مياه المجاري القادمة من 183 حياً سكنيا في كلا جانبي مدينة الموصل الأيسر والأيمن، فضلاً عن نهر (الخوصر) الذي يعد أكبر مصب للمياه الملوثة في دجلة.
الى جانب مقالع الحصى والرمال التي تجري عمليات قسطرة يومية لمجرى النهر تحت انظار الجهات الحكومية بل وبترخيص منها في كثير من الحالات. اضافة الى قلة الوعي البيئي لدى المواطنين والطرق البدائية في التخلص من النفايات العادية والطبية والتجاوزات المتنوعة على ضفاف النهر.
مصبات مياه المجاري
وفقا لمصدر في مديرية مجاري نينوى (طلب عدم الاشارة الى اسمه، كما فعل العديد من الموظفين الذين تواصل معهم معد التحقيق لأسباب إدارية) فأن هنالك أكثر من عشرين مصباً لمياه المجاري العامة في نهر دجلة “نصفها مصبات رئيسية والنصف الآخر ثانوية”.
ويقول ان الأثر العميق لما تحمله هذه المصبات من فضلات وبكميات كبيرة جدا كل يوم “يظهر وبنحو جلي عند انحسار المياه في نهر دجلة في مواسم الجفاف وخلال اشهر الصيف، اذ ترتفع نسب التلوث في المياه”.
ويذكر بأنه وزملاءه يصابون بالصدمة عندما يقومون بالحملات السنوية قبل مواسم الامطار لتنظيف شبكات المجاري لمنع انسدادها الذي سيتسبب بفيضانات داخل الأحياء السكنية والاسواق، فهم يرفعون حسبما يقول “عشرات الاطنان من النفايات الصلبة من فتحات المجاري، وآلاف من عبوات المياه البلاستيكية”.
ويتساءل:”ترى كم من النفايات تمر وتصل الى النهر؟”.
وكان مدير مركز بحوث الموارد المائية في جامعة الموصل، توفيق اليوزبكي، قد أكد في تصريح صحافي أن “نسبة تأثير الملوثات على النهر تكون أكثر في الصيف عندما تكون اطلاقات المياه من سد الموصل نحو النهر أقل”.
ورأى أن الحل الأمثل يكمن في معالجة الملوثات قبل طرحها للتقليل من أثرها البيئي السيء. وهذا ما تفتقر إليه الموصل، وحتى المدن الاخرى التي يمر بها نهر دجلة وصولاً إلى آخر نقطة في البصرة جنوبي البلاد.
د.معاذ حامد عميد سابق لكلية البيئة في جامعة الموصل، يؤكد وجود (13) مصباً فرعياً على ضفاف دجلة من نقطة دخوله الموصل حتى خروجه. ويذكر ان دراسة أجراها قدرت كمية المياه الملوثة المطروحة من هذه المصبات بنحو 500000م3 في اليوم.
وحسب الدراسة فإن معظم المياه تضم ملوثات معدنية كبريتية، وملوثات عضوية تحملها مياه الصرف الصحي. ولذلك يحذر من خطر استخدام تلك المياه في سقي الحقول :”تلك المواد المهددة للصحة ممزوجة في المياه التي تسقى بها مئات الحقول الزراعية المنتجة للخضراوات”.

موظف في دائرة الموارد المائية في نينوى، ذكر بأن السبب وراء ازدياد تأثير الملوثات المنقولة عبر مصبات المجاري لنهر دجلة هو :”الزيادة الكبيرة في اعداد السكان، اذ يعيش في الموصل مليونا نسمة، اضافة الى سكان البلدات الأخرى على طريق النهر ضمن حدود محافظة نينوى”.
الباحث خلدون عبد العزيز، يرى بأن وحدات معالجة مياه المجاري التي يجري تنفيذ أحدها في الوقت الراهن في الجانب الأيسر “مشاريع مهمة جدا، لكنها غير كافية لوحدها”، ويوضح:”لابد من معالجة شاملة لآلية التخلص من النفايات، من خلال انشاء معامل التدوير، وتثقيف وتوعية المجتمع بشأن عدم رمي النفايات في غير الأماكن المخصصة لها”.
ويؤكد اهمية اعتماد آلية لطرح النفايات من المنازل والأسواق وغيرها، بحيث لا يتسرب أي شيء منها الى “السواقي في الشوارع”، ويبين:”الآلية الحالية في تخلص المنازل من الفضلات بتجميعها في حاويات مفتوحة أو على الارض بدون تغطيتها، تؤدي دائما الى انتقالها الى السواقي ومجاري مياه الامطار، لتصل الى النهر، كما ان مناطق طمر النفايات غير النظامية تؤذي وبشكل كبير البيئة وتلوث المياه الجوفية وتصل اضرار بعضها الى نهر دجلة بواسطة الامطار والسيول”.
عن ذلك يقول البروفيسور المتقاعد مروان متعب آل سيد، أنه زار دائرة البيئة في مدينة الموصل سنة 2002، وأنه تحدث الى مديرها عن مصادر تلوث نهر دجلة والمياه الجوفية. وأخبره بوجود منطقة “ملوثة” تقع في الجانب الأيمن للمدينة تتكدس فيها آلاف من هياكل السيارات، وان مياه الأمطار تمتزج مع الملوثات هناك وتجري في الوديان لتصب في نهر دجلة وتحديدا “في وادي حليلة الذي يقع مصبه شمال مشروع مياه الجانب الايسر الذي يتزود من مياه نهر دجلة شمالا”.
وذكر البروفيسور مروان، أن مديرية بيئة نينوى تشير أيضا الى مخاطر بيئية يحملها “موقع النفايات في الجانب الايسر”، والذي يقع شرق حي الميثاق على وادي الشور، فكميات النفايات الهائلة تلك “يمكن أن تؤدي إلى تلوث مياه دجلة فضلا عن تلوث المياه الجوفية في المنطقة”.
ويشير الى أن شيئا لم يتغير والحال باق على ما هو عليه على الرغم من مرور أكثر عقدين من الزمن على وجود بؤرتي التلوث المهددتين للبيئة ومعها الصحة العامة.
مشاريع معالجة على الورق
مصدر في مديرية بلدية الموصل أفاد بوجود مشاريع لإنشاء محطات لمعالجة مياه المجاري في مدينة الموصل، دون ان يدلي بمزيد من المعلومات عن تفاصيلها ونسب انجازها او ايراد تاريخ محدد لإدخالها الخدمة.
في وزارة التخطيط، علمنا باحدى تلك المشاريع، وهو مشروع مجاري الموصل في الساحل الأيسر، الذي يتألف من خطوط ناقلة لمياه الصرف الصحي ومياه الامطار مع محطة معالجة رئيسية قبل طرح المياه الناتجة عنها في مجرى نهر دجلة.
ويفترض انجاز المشروع خلال العام الحالي 2025 والذي يشمل “تجهيز وتنفيذ محطة معالجة مجاري الموصل الجانب الايسر بمرحلتيه الأولى و الثانية، والمتمثلة بتنفيذ المحطتين الرئيسيتين بطاقة 100 ألف متر مكعب/بالساعة لكل منهما، لمعالجة مياه الصرف الصحي قبل طرحها في نهر دجلة”.
يتم تنفيذ هاتين المحطتين على ارض تبلغ مساحتها 300 دونم، مع امكانية اضافة محطتين أخريين على ذات الارض في حال الحاجة الى ذلك مع التوسعات السكانية المستقبلية.
وتتألف محطة المعالجة من عدّة منشآت لمعالجة مياه الصرف الصحي الداخلة للمحطة، وهي تضم محطة للرفع بطاقة (100.000) مترمكعب/ باليوم، وفق وزارة التخطيط .
ناشطون بيئيون تواصل معهم معد التحقيق بشأن مشروع المجاري، ذكروا بان وحدات المعالجة فيه صغيرة ولن تكفي لمعالجة او تغطية كافة مناطق الجانب الايسر، وبالتالي فان جزءاً كبيراً من المشكلة سيظل قائما، ناهيك عن الجانب الايمن الذي شهد مشروع مشابه هناك تعثرا يمتد لسنوات.
ومع ذلك فهم يتفقون على أهمية المشروع، ويعدونه خطوة اولى لحماية مصدر المياه الرئيسي وهو النهر من التلوث، وعبروا عن أملهم في أن تنفذ مشاريع مشابه في جميع المدن والبلدات التي يمر بها نهر دجلة.
نهر الخوصر
نهر الخوصر، قناة اروائية صناعية أنشأها الآشوريون قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة وفقاً لمؤرخين، يبلغ طوله نحو 14 كيلو مترا، بامتداد من شمالي الموصل، ويلتقي بنهر دجلة بمنطقة الفيصلية وسط المدينة.
ظل النهر وعلى مدى العقود الثلاث الأخيرة جراء انحباس الأمطار أشبه بساقية من مياه المجاري والصرف الصحي تصب في نهر دجلة، حتى عده مختصون بيئيون أكبر مصب للمياه الملوثة في نهر دجلة. اذ لا يغمر بالمياه الا اياماً محدودة في السنة، وتحديدا خلال موسم تساقط الامطار والسيول في الربيع.
عند نقطة التقاء نهر الخوصر، بدجلة يمكن ملاحظة ما قد جلبه معه من ملوثات سائلة وصلبة في رحلة الاربعة عشر كيلو مترا التي يقطعها منحدرا من شمال الموصل، ناقلا ما تضمه مياه الصرف للعديد من الاحياء السكنية على جانبيه، اضافة الى ما يلقى فيه من نفايات وانقاض صناعية.
خلصت دراسة اعدتها الباحثة “ميادة حازم محمد” من كلية الهندسة القسم المدني في جامعة الموصل، ونشرتها في 2012، إلى تجاوز كميات الملوثات في نهر الخوصر للحدود المسموح بها ضمن المواصفات العراقية، إذ زادت الفوسفات بخمس مرات “والمتطلب الحيوي للأوكسجين 1.5 مرة، والمتطلب الكيمياوي للأوكسجين 1.48 مرة”.

وارتفاع نسب الملوثات تلك التي تطرح في دجلة تجعل مياهه غير صالحة لتكون مادة خام لتجهيز مياه الشرب.
ونبهت الدراسة الى أن تصريف مياه الخوصر في نهر دجلة، يسبب زيادة ملحوظة في مؤشرات التلوث العضوي في منطقة المصب “ولمسافة تجاوزت 600 متراً” بعد المصب من الجهة اليسرى للنهر.
وشددت على أهمية تنظيف حوض نهر الخوصر، من المخلفات الصلبة والطحالب وكري قاع النهر من الترسبات، وعمل مجرى متقاطع مع المصبات الواقعة على نهر دجلة “ينقل الفضلات الى محطة للمعالجة أو يطرحها الى النهر على مسافة مناسبة خارج مدينة الموصل.
جزء ما دعت اليه دراسة ميادة حازم، فضلاً عن دراسات اخرى نشرت لاحقا في جامعة الموصل، قامت به مديرية الموارد المائية في نينوى بالتعاون مع الوكالة الامريكية للتنمية الدولية، من خلال تنفيذ مشروع تطوير وتنظيف نهر الخوصر بين عامي 2023 و2024 والذي استمر لـ18 شهرا، تم خلاله رفع ما يزيد عن نصف مليون لتر مكعب من الأنقاض والمواد العضوية والترسبات، وتم اكساء جنباته بالاحجار وأعيد تأهيل سياجه.
وذكر المهندس المشرف على المشروع عوف عبد الرحمن، أن تكلفة المشروع بلغت ستة مليارات دينار(4 مليون دولار)، مؤكدا تخصيص مبالغ اضافية لإنشاء قناة ترفد النهر من شماله عبر بحيرة سد الموصل.

الخبير في مجال البيئة سلام عبد الله، يقول بأن اعمال تطوير مماثلة عديدة جرت لنهر الخوصر طوال العقود الخمس المنصرمة:”وفي كل مرة كانت تنفق أموال طائلة لتنظيف النهر وتبطين جوانبه وترميم السياج في الجانبين، وبعد أشهر قليلة ومع الإهمال كان المجرى يعود الى سابق عهده مليئاً بالنفايات والأنقاض تجوبه قطعان الماشية، وتصب فيه مياه صرف الاحياء السكنية، ليرجع كأكبر مصب للملوثات في نهر دجلة”.
ويستدرك:”لكن لو تحقق الأمر فعلاً، وتم ربط بحيرة سد الموصل بنهر الخوصر، وتم الاتزام بادامته فهذا يعني التخلص من اهم مصدر تلوث لنهر دجلة، وأيضاً احياء منطقة الشلالات السياحية التي شيدت على نهر الخوصر قبل عقود”.

كري النهر أم مقالع للحصى والرمل؟
بعد اكمال تحرير مدينة الموصل من تنظيم داعش في صيف 2017، امسكت قوات الحشد الشعبي الأرض، وصار للأحزاب الشيعية المتنفذة في السلطة، كعصائب أهل الحق وسواها، مكاتب اقتصادية هي بمثابة أذرع لتوفير التمويل، تعاملت مع مخلفات الحرب مع داعش كغنائم، فضلاً عن حصولها على نسب من أموال المشاريع الحكومية وحتى غير الحكومية.
ويذكر الباحث عادل كمال، أن اول شيء سيطرت عليه المكاتب الاقتصادية كانت “انقاض الحرب ولاسيما الحديد، من مشيدات الأبنية التي دمرت أو هياكل المركبات العسكرية والمدنية، وبآلاف الأطنان، وتم نقلها على مدى ثلاثة سنوات بواسطة شاحنات الى معامل صهر في باقي المحافظات العراقية أو صدرت الى ايران”.
ويشير كذلك الى ان جزءاً من واردات تلك المكاتب الاقتصادية، كان يتأتى من “مقالع الحصى والرمل في نهر دجلة، ومن مختلف مناطق مروره بمدينة الموصل وخارجها، إذ شهدت الموصل ونينوى بشكل عام حركة إعمار واسعة لما دمرته الحرب وهي مستمرة لغاية الان”، وان المكاتب الاقتصادية كانت تدير بعض المقالع مباشرة أو تأخذ نسباً من اشخاص يديرونها.
ويضيف:”هكذا انتشرت العشرات من المقالع في مجرى نهر دجلة، مما أدى الى تشوهات بصرية في ضفتيه ونشأت عنها برك وتغير في مجرى النهر، وضعف في انسيابيته”.
قمنا بالاتصال بدائرة حكومية معنية، اكد لنا مسؤولها الاعلامي بأن دائرته فاتحت مرجعها في بغداد بشان التجاوزات الحاصلة على نهر دجلة بواسطة مقالع الحصى، والتي “اثرت وبشكل كبير على نوعية المياه في النهر، وعلى الأحياء المائية، وأحدثت تغييرات في مجرى النهر”، وقال بأن أي اجراء لم يتخذ بسبب “نفوذ الحشد الشعبي” على تلك المشاريع، وطالب بعدم الاشارة الى اسمه أو دائرته.
موظف حكومي آخر في نينوى، طالب بدوره وبالحاح عدم ذكر اسمه او اسم دائرته، قال بأن الأحاديث والشكاوى بشأن سيطرة المكاتب الاقتصادية على كل شيء تقريبا في الموصل والتي تتردد منذ 2018، دفعت الأحزاب قبل فترة الى تحويلها الى شركات مرخصة “تتعامل بنحو رسمي، وتدخل في منافسات محسومة لصالحها بحكم نفوذ احزابها، مع شركات اهلية في المزايدات والمناقصات ومن بينها المتعلقة بمقالع الحصى”.

وكرر الموظف ما يتردد في الجلسات بعيدا عن الاعلام، بشأن الأضرار التي تسببت بها المقالع التي قال بان اعدادها وصلت بين 2019 و2024 إلى أكثر من خمسين مقلعا في مجرى النهر بداخل مدينة الموصل.
وأضاف، متحدثا عن ضرر آخر لها:”أثرت على عمل محطات المياه التي تتغذى من نهر دجلة، لانها تسبب بارتفاع مستويات العكورة ولاسيما في الاوقات التي تقل فيها الامدادات للنهر من بحيرة سد الموصل او المنبع في تركيا واصبح بالوسع ملاحظة الجزرات التي أنشاتها المقالع في مجرى النهر”.
وبالعودة الى مديرية الموارد المائية، قال موظف هناك، أن دائرته بدأت في عام 2020 تتعامل بنحو قانوني مع المقالع من حيث التراخيص وذلك وفق القانون رقم 59 لسنة 1987 الذي “يمنع عمل المقالع على ضفاف نهر دجلة لأنها قد تسهم بتغيير مجرى النهر”، وانها نظمت حملة لغلق غير المستحصلة منها على موافقات وبلغت أعدادها 52 مقلعا والكثير منها تركزت في جنوبي الموصل.
وعلمنا من خلال مصادر أخرى عديدة، أن الموارد المائية ودفعا للحرج، اعلنت مشروعاً لكري نهر دجلة في الموصل، تقدمت لها الشركات المرتبطة بالاحزاب أو تلك التي تدفع لها نسباً من المزايدات، وبهذا اصبح عمل تلك الشركات في الظاهر وبأوراق رسمية كري نهر دجلة، في حين انها مقالع لرفع الحصى والرمل وبيعه في السوق المحلي”.
مصادر اخرى للتلوث
ليست مصبات المجاري ومقالع الحصى والرمال، وحدها المسؤولة عن تلوث مجرى نهر دجلة ومياهه، إذ ثمة مصادر أخرى عديدة وفقاً لموظفين حكوميين ومتخصصين في مجال البيئة، يحدد الخبير البيئي سيف غانم اخطرها بقوله:
“غياب الوعي لدى المواطنين بالقائهم النفايات في النهر، كعبوات المياه البلاستيكية، وزيوت السيارات والآليات وغيرها”، مشيراً الى ان ذلك يحدث باستمرار سواءً على ضفتي النهر لدى مروره بالموصل أو في البلدات والقرى قبل دخوله اليها او بعد خروجه منها”.
وينبه إلى أن مربي الماشية ولاسيما الجواميس بدورهم يتسببون بأضرار بيئية في نهر دجلة “هذا اضافة الى مخلفات حظائر الأغنام والابقار التي تلقى في النهر كذلك”، مقدرا كميات النفايات الناجمة عن تربية الحيوانات بنحو 10 أطنان تلقى يومياً في النهر”
ويضيف إلى ذلك ما تلقيه الورش الصناعية من مخلفات في النهر “وقيام الكثير من اصحاب المركبات الصغيرة والكبيرة بغسلها على ضفتي النهر لتنتقل ملوثاتها مع سوائل الغسل الكيماوية الى المياه، واخطر تلك المركبات هي صهاريج النفط ومشتقاته”، مبدياً استغرابه من حدوث ذلك على الرغم من “وجود شرطة بيئية يفترض بها منع تلك المخالفات”.
ويتحدث الخبير البيئي، عن وجود منطقتين صناعيتين كبيرتين في الموصل، واحدة في الجانب الايمن والاخرى في الأيسر:”المخلفات السائلة لها تصل بطريقة او بأخرى الى النهر، عبر الأودية بدفع من سيول الامطار، التي تجلب معها ملوثات المنطقتين الصلبة كذلك”.
خبير آخر، وهو المهندس المتقاعد رضوان ياسين علي، يقول بأن نظام تصريف المياه الثقيلة في الموصل ونينوى بنحو عام “قديم، ويتمثل بخزانات كونكريتية ترابية في الأسفل، تسمح بتسرب المياه لتمتزج بالمياه الجوفية”.
ويستدرك:”الكثير من المنازل، وبهدف تفادي امتلاء الخزانات وتكبد نفقات افراغها بواسطة صهاريج خاصة مستأجرة، يمدون انابيب من تلك الخزانات لتصب في مجاري الأمطار، وبالتالي تنتقل المياه الثقيلة لتصب في نهر دجلة”.
مصدر آخر للتلوث يفصح عنه الناشط البيئي محمد غزوان عبد، وهي النفايات الطبية، وقال بأن هنالك الكثير من المستشفيات الاهلية ومختبرات الفحص والعيادات الطبية والتمريضية وحتى المستشفيات الكبيرة، تتسرب “نفاياتها السائلة الى مجرى نهر دجلة عبر شبكات التصريف أو حتى بألقاء النفايات الصلبة على الضفاف”.
ويتابع:”البعض يظن بان القاء النفايات الطبية في مناطق الطمر الصحي يعني عدم وصول ضررها الى النهر، وهذا غير صحيح، اذ ان بوسع الأمطار نقل تلوثها الى النهر”.
ونبه الى ضرورة اعتماد الوسائل الحديثة في التخلص من النفايات الطبية، مع امكانية التعاقد مع شركات خاصة تقوم بجمعها ومن ثم التخلص منها بنحو آمن “سواءً بالحرق أو استخدام مواد كيماوية تحللها او فرامات خاصة”.
تفاقم التلوث بأسبابه المختلفة، والذي يهدد التراكيب الطبيعية لمياه النهر وبالتالي البيئة السليمة لتكاثر الأسماك كما على المنتجات الزراعية في حقول الموصل ومحيطها، بات يصل الى نوعية مياه الشرب التي يعتمد عليها اربعة ملايين شخص، حيث تتكرر حالات إيقاف مشاريع المياه عن العمل.
مديرية ماء نينوى، أعلنت ولمرات عدة في اوقات متفاوتة “اطفاءً مؤقتاً” لمشاريع المياه في المحافظة، بسبب التلوث، آخره في التاسع من ابريل/نيسان 2025، واكدت في بيان صدر عنها، بأن السبب كان مرور بقعة زيتية في نهر دجلة.
حلول ومعالجات
يؤكد الأستاذ الجامعي المتقاعد هاشم حسان زكر، أن الرأي العام والجهات الحكومية “لم يكونا ليلتفتا الى مسألة التجاوزات على نهر دجلة وتلوثه، لولا النقص الحاد في مياهه لفترات طويلة خلال السنة، خلافاً لما كان الأمر عليه قبل عقدين او ثلاثة، أي قبل بناء تركيا سدودا على منابع دجلة في اراضيه، وتقليصها لحصة النهر المائية”.
ويضيف:” اذن غزارة الماء هو الحل الأول، لأنها تقلل من أثر الملوثات، وتعين محطات تصفية المياه”، وبما أن قلة الامداد من بلد المنبع تركيا أمر واقع، فيرى هشام الذي عمل في مجال بناء السدود، أن “أفضل حل يكمن في ضمان خزين مائي في دجلة من خلال إنشاء سد غاطس في مجراه داخل مدينة الموصل”.
وأوضح فكرته:”المعروف عن نهر دجلة أن جريانه سريع لأنه ينحدر من منطقة مرتفعة نزولاً الى اقصى جنوبي العراق، وهو يجرف معه سنويا مئات الالاف من اطنان الطمى، وبذلك سيحتاج مجراه الى كري كل عدة سنوات، وهي عملية باهظة التكاليف وتحتاج الى تخصيص ميزانية حكومية ضخمة”.
لذا، فأن السد الغاطس، هو الحل كما يعتقد، ويعرفه:”سيكون بمثابة خزان مائي ضخم في مجرى النهر خلال مروره بمدينة الموصل، وذلك بحفر المجرى لما لا يقل عن عشرين مترا، عبر حملة وطنية تشترك بها شركات المقاولات العراقية فضلاً عن اجنبية يمكن استقدامها”.
المشروع هذا الذي يقول أن بالوسع تنفيذه في المدن الاخرى التي يمر بها النهر كبغداد على سبيل المثال، سيضمن:
– الاحتفاظ بكميات كبيرة من المياه.
– منع هدر المياه (بسبب سرعة جريان دجلة في الوقت الحالي لايمكن الاحتفاظ بمياهه في المجرى او في الاقل سيرها ببطء).
– تقليل أثر الملوثات التي تصب بالنهر.
– ضمان حصول مشاريع التصفية على ماء خام قليل التلوث.
– التخلص من مشكلة عكورة المياه المتجددة سنويا بسبب سيول الأمطار وبالتالي توقف محطات تصفية المياه عن العمل وحرمان مناطق واسعة من مياه الإسالة لأيام عديدة.
ويذكر الباحث هاشم حسان، ان انشاء السد الغاطس سيساهم في تنمية الأحياء المائية وأهمها الثروة السمكية، كما في تطوير السياحة من خلال تشييد مرافق سياحية على ضفتي النهر، كالفنادق والمنتجعات وغيرها.
عدنا بالمقترح هذا الى دائرة الموارد المائية في نينوى، مصدرنا هناك، افاد بأن مجلس محافظة نينوى قبل 2014 كان قد ناقش فكرة مشروع السد الغاطس، لكنه لم يستطع اقراره كمشروع بسبب اعتراض المحافظات الأخرى التي يمر بها نهر دجلة جنوبي الموصل، وخشيتها من أن يؤدي المشروع الى تقليل حصصهم المائية.
وذكر أيضاً بان كلفة المشروع كبيرة وتتطلب تخصيص مبالغ من الميزانية العامة “لكن من الممكن تنفيذه على مراحل، بان تكون المرحلة الاولى مثلا:”بين جسري العتيق وجسر الحرية في وسط المدينة، وبعدها تنفيذ مراحل أخرى متلاحقة على مدى عشر سنوات”.
وبشأن تخليص نهر الخوصر وبنحو نهائي من مشكلة التلوث وبالتالي تقليل نسبة التلوث في نهر دجلة، ذكر بأن هنالك خطتان، الأولى بمد قناة من مشروع ري الجزيرة الشمالي الذي يستمد مياهه من بحيرة سد الموصل.
والثانية، بمد قناة اروائية من نهر دجلة قبل دخوله الموصل من جهته الشمالية، نحو نهر الخوصر “ولن يؤثر ذلك على الحصة المائية لبقية المحافظات، لأن اتجاه المياه سيكون فقط بنحو دائري، إذ ستسير في نهر الخوصر وتعود لتصب في نهر دجلة مجددا، سنضمن بواحدة من الخطتين مياها نظيفة دائمة في الخوصر، وسيكون بالوسع انشاء محطات تصفية المياه عليه، وسنتخلص من جزء كبير من مشكلة التلوث في النهر”.
ويجد الباحث في مجال البيئة جرجيس فائز، أن جزءاً من الحل يكمن في أن “تمارس الشرطة البيئية دورها، وان يتم تعزيز قدراتها الفنية والبشرية لمنع التجاوزات على مجرى نهر دجلة وضفافه، وفرض غرامات مالية من قبل دائرة البيئة على المتنزهات والطاعم على الضفاف او المركبات التي تلقي بالنفايات هناك”.
وينبه الى دور المؤسسة التربوية في ذلك “عليها ثقيف وتوعية الاطفال في المدارس”، الى جانب دور المؤسسات الحكومية والاعلامية بتشجيعها السكان على التعامل مع النفايات بنحو حضاري.
ويعود لما اكده آخرون، بضرورة ايجاد حل نهائي لمشكلة النفايات في الموصل بانشاء معامل التدوير، والانتهاء سريعا من مشاريع المجاري التي ترتبط بها وحدات معالجة مياه الصرف الصحي.
“منذ ان كنت طفلاً صغيراً، وأنا اسمع بان هنالك مشكلة نفايات في الموصل، وان النهر يتلوث بسبب ذلك، اضافة الى مصبات المجاري فيه”، هذا ما يقوله فارس الجبوري (45سنة) مدرس اعدادية.
ثم يضرب يديه ببعضهما ويضيف:”عندما تنحسر مياه النهر، وتتضح مشكلة التلوث الكبيرة بسبب قلة المياه، يتحدث الجميع فجأة عن التلوث والبحث عن حلول، وتضج وسائل التواصل الاجتماعي بالمناشدات، لكن ما ان تتساقط الامطار وتجري المياه في النهر بكميات أكبر، حتى يلوذ الغالبية العظمى بالصمت كأن شيئا لم يكن”.
يصمت قليلاً ثم يتابع وهو يحرك يديه بحماس وهو يبتسم “يتذكرون كذلك تلوث المياه قبل الانتخابات، ويقدمون العشرات من الحلول التي لا ترى النور أبدا حتى بعد وصولهم للسلطة ومشاركتهم في الحكومة”.
• أنجزت المادة تحت اشراف شبكة نيريج للتحقيقات الاستقصائية وبدعم من منظمة cfi.