شيماء علي: ريشة فتاة ترسم الحياة في شوارع الكوت

فاطمة كريم – الكوت
في أحد أحياء الكوت، تقف شابة تحمل فرشاة وألوانًا أمام جدار باهت. لا مهرجان افتتاح، ولا تصفيق، فقط يد ثابتة وإيمان بأن الفن قادر على تغيير المدينة.
شيماء علي، 28 عامًا، أول فتاة في مدينتها الكوت تمتهن الرسم على الجدران في الأماكن العامة، بدأت مشوارها الفني في سن مبكرة بمساعدة والدها، وواصلته رغم فقدانه ورغم مقاومة مجتمعية لفكرة “رسامة شارع”. اليوم، أصبحت أعمالها جزءًا من المشهد البصري للكوت، وتحمل توقيعًا يعرفه الجميع.
بداية من يد الأب
في مجتمع لم يعتد أن يرى فتاة تقف أمام الجدران تمسك الفرشاة وتُطوّع الألوان على الإسمنت، خرجت شيماء من بين التقاليد لتشق طريقها كرسامة في الشوارع والمتنزهات والمقاهي، تاركة بصمتها في كل زاوية من مدينتها.
تقول شيماء: “تعلمت فن الرسم من والدي، وأنا اليوم الرسامة الأولى والوحيدة في محافظتي. الطريق كان صعباً، لكني وصلت إلى ما أستحق”.
حين كانت في الثانية عشرة من عمرها، لم تكن شيماء تقضي أوقاتها مع دمى الأطفال فقط، بل كانت تمسك بالفرشاة إلى جانب والدها، ترسم على جدران المنتزهات والمقاهي والمطاعم، وتلوّن الأرصفة.
تقول: “والدي لم يكن يخجل من وجودي، كان يشجعني دائمًا. كثير من الأقاويل ترددت على مسامعنا، ورفض المجتمع وأقرب الناس لنا وجودي في هذا المجال لكوني بنت فقط، لكن والدي لم يكترث لهم أبدًا”.
تلك كانت بدايتها، في بيئة لم تكن معتادة على وجود فنانة شابة في الشارع. ومع مرور الوقت، تطورت تجربتها، وتوسعت مهاراتها. لكن التحول الكبير في حياتها جاء في عمر السابعة عشرة، عندما توفي والدها. فقدت الداعم الأول، واضطرت إلى مواجهة مسؤوليات العائلة والعمل وحدها، لتكمل المسيرة التي بدأت بها معه.
من الألم إلى الأمل
لم تكن شيماء وحدها في هذا الطريق، فهناك امرأة أخرى كانت تقف خلفها بقوة: أمها، امرأة في الثالثة والخمسين من عمرها، رسامة سابقة حملت الموهبة في يدها قبل أن تفقد بصرها بسبب أحداث العراق سنة 2003، لكنها لم تفقد إيمانها بابنتها. تقول أم شيماء: “كنت أتمنى لو لم أفقد بصري، وأنهض لأساعد ابنتي في الخارج ونرسم لوحات جميلة أنا وهي”.
بهذا الدعم، قررت شيماء أن تواجه العالم وحدها. خرجت إلى الشارع تقرع أبواب المنتزهات والمطاعم وتعرض عليهم أعمالها. لكنها لم تسلم من نظرات الاستغراب والاستهزاء والرفض الصريح لمجرد كونها فتاة على حد قولها.
تتذكر ذلك قائلة: “كنت اجهد في اقناعهم انني قادرة على انجاز هذا العمل”. وتتابع: “كنت أصمت وأدع نتائج عملي هي من تتكلم، ودائمًا في النهاية الزبون ينبهر ويستمر بشكري”.
أثبتت شيماء نفسها بجدارتها، وعملت مع مجموعة من منتزهات المدينة لثلاث سنوات متواصلة. صقلت موهبتها كما لم يحدث من قبل، لتتحوّل جدران هذه المنتزهات إلى معارض مفتوحة تحمل توقيعها. اسمها بدأ يلمع بين أوساط المدينة التي يقدر عدد سكانها بحوالي نصف المليون نسمة، فباتت تعرف بلقب “رسامة الكوت”.
ورغم وجود فنانين جداريين في مدن عراقية كبرى مثل بغداد والبصرة، إلا أن هذا الفن لا يزال نادرًا في مدن جنوبية مثل الكوت، خاصة عندما تمارسه النساء في الفضاء العام، إذ “لا توجد تقاليد راسخة لهذا النوع من الفن، وغالبًا ما يُعامل كزينة مؤقتة، لا كوسيلة تعبير بصري أو فني” توضح شيماء.
من الهامش إلى قلب المدينة
في لحظة بحث عن الاستقرار، قررت شيماء أن تتوجه إلى محافظ الكوت السابق، محمود ملا طلال، تحمل حقيبتها الصغيرة ونماذج من فنها. لم تكن تطلب صدقة بل فرصة، وقد حصلت عليها.
بفضل جرأتها وموهبتها، تم توظيف شيماء في دائرة بلدية الكوت كرسامة معتمدة، لتصبح اليد التي تزيّن شوارع المدينة وتلوّن أرصفتها بتراث واسط وجمالها. تقول شيماء: “لم تكن مجرد وظيفة، بل منصة انطلقت منها نحو الاحتراف، فأصبحت لوحاتي حديث الناس، وجدران المدينة تروي قصتي في كل مكان”.
ولا تُعرف بلدية الكوت ببرامج دعم منهجية للفنانين أو الفنون التشكيلية، لذا فإن توظيف شيماء كرسامة معتمدة ضمن كادر البلدية شكّل سابقة في المدينة، ويعد ذلك إشارة ضمنية إلى تحوّل تدريجي في نظرة المؤسسات الرسمية إلى دور الفن والفنانات.
وتتابع: “كنت أخرج من الدوام، وأذهب إلى الطلبات الخاصة في المطاعم والمنتزهات لأكمل أعمالي. أشعر بالفخر كل مرة أسمع أحدًا يطلبني باسمي، وهو لا يعرفني شخصيًا، إنما يعرف رسمي”.
وساعدت وسائل التواصل الاجتماعي على تعزيز حضور شيماء، فصور أعمالها المتداولة على فيسبوك وإنستغرام جعلت اسمها يتكرر في دوائر الزبائن، وفتحت أمامها فرصًا جديدة. وقد لعب هذا التفاعل دورًا في ترسيخ الثقة بعملها كفنانة مستقلة.
“مع مرور الوقت، تبدلت نظرة المجتمع، من الاستغراب إلى الإعجاب، ومن الرفض إلى الفخر” تقول الشابة العراقية التي تحوّلت من فتاة غريبة على المشهد إلى وجه معروف تطلبه الدوائر الرسمية والمقاهي والمطاعم وحتى المدارس لتزيين جدرانها.
شيماء في عيون أهل واسط
ياسر نصير، أحد زبائن شيماء، في الثلاثين من عمره، يسكن منطقة الخالدية في قضاء الكوت، ويمتلك شركة خاصة في مجال تصميم وتنفيذ الديكورات، وهو من الأسماء المعروفة في هذا المجال. خلال سنوات عمله، تعامل مع العديد من الفنانين والمصممين، لكنّ لقاءه بشيماء شكّل نقطة تحول بالنسبة له.
كانت البداية عندما لفت نظره جدار مرسوم بإتقان في أحد شوارع الكوت. الخطوط الواثقة، الألوان المتناغمة، واللمسة الفنية التي تجمع بين البساطة والرسالة، كلها جعلته يتوقف طويلًا. يقول: “تفاجأت عندما علمت أن هذه الرسومات تعود لفتاة، وقررت التعاون معها”.
منذ ذلك الحين، أصبحت شيماء إحدى الأسماء الثابتة في مشاريع شركته، لا سيما تلك التي تتطلب فنًا جداريًا في المطاعم والمقاهي والمساحات العامة. “كانت النتيجة في أول مشروع ممتازة، بل أبهرتني فعليًا”، يؤكد ياسر، “لم تكن فقط رسامة موهوبة، بل ملتزمة إلى درجة نادرة: تحترم الوقت، دقيقة في التفاصيل، وسريعة الإنجاز دون أن تمسّ بجودة العمل”.
الزبائن بدورهم لمسوا الفرق. يذكر ياسر كيف أن افتتاح أي مطعم تتعاون فيه شيماء يكون محاطًا بإعجاب الزبائن الذين يلتقطون الصور أمام الجدران وينشرونها على صفحاتهم في وسائل التواصل الاجتماعي، مما يساهم في الترويج للمكان بطريقة غير مباشرة. وهذا بحد ذاته قيمة مضافة يقدمها فن شيماء.
ورغم أن مجال الديكور والرسم الجداري كان يُعدّ حكرًا على الرجال في نظر كثيرين، يرى ياسر في شيماء نموذجًا يغيّر هذه النظرة. يقول: “الذي تفعله شيماء ليس مجرد رسم، بل تحويل الأماكن الباهتة إلى لوحة من الفن والجمال. وأعتقد أن المجتمع بدأ يتقبل هذا النوع من العمل للمرأة، خصوصًا عندما يرى الجودة والإبداع من فنانة مثابرة مثل شيماء”.
طموح أكبر من جدار
رغم كل ما حققته، لم تتوقف شيماء علي عند حدود الوظيفة أو شهرة الاسم. فهي اليوم تحمل في قلبها طموحًا أكبر من جدار، وأوسع من مدينة. تحلم أن تفتتح معرضًا فنيًا خاصًا بها، تعرض فيه لوحاتها التي رسمتها في الشوارع والمنتزهات، وتنقل خلاصة تجربتها الطويلة إلى الجيل الجديد.
لكن حلمها لا يقف عند حدود الفن فقط، بل يمتد إلى تمكين النساء. تسعى شيماء إلى إقامة ورش تدريبية لفتيات محافظتها، لتعلّمهن فن الرسم على الجدران، وتفتح لهن نوافذ جديدة للحياة.
تقول: “أريد أن تصبح كل امرأة عندها موهبة مثل ما كنت، لا تبقى حبيسة أفكار مجتمع أو معارضة أهل. أريد أن يصل لهن الدعم مثل ما وصلني من أمي”.
أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)