دنيا صفاء .. حكاية تنبت تحت شجرة المانغروف

البصرة- نغم مكي

في خور الزبير كانت دنيا صفاء عبد الحسين، ذات الثامنة والعشرين عامًا، تمشي بثبات على الأرض الطينية وهي تحمل شتلة مانغروف صغيرة، وعيناها تتجهان نحو صفوف الشتلات الجاهزة للزراعة، كأنها ترى في كل واحدة منها وعدًا بحياة جديدة.

تقول دنيا بابتسامة واثقة إن “من أجمل التجارب في حياتي كانت زراعة المانغروف في خور الزبير، تعلمت من الشغل الميداني شلون أتعامل مع الأرض ومع الناس، ومع نفسي قبل الكل”.

في عام 2023 شاركت دنيا في حملة تطوعية نظمها برنامج الأغذية العالمي ملبيةً واجبها في خدمة البيئة، لكنها واجهت اعتراضات اجتماعية ومعوقات. “أنتِ خريجة، لماذا تنزلين إلى الوحل؟ انتظري التعيين!”، هذه عينة عن التعليقات التي كان تتلقاها من مجيطها بحسب قولها.

لكن رؤيتها كانت مختلفة، “فأنا أؤمن أن التعيين لا يأتي على طبق من فضة، بل يُصنع بالعمل والعطاء والانخراط في الميدان. أنا لا أنتظر التعيين، أنا أصنعه”، تقول دنيا بثقة.

على مدى شهور، قادت دنيا أكثر من 300 إلى 400 متطوع في حملات متتالية لزراعة المانغروف في خور الزبير، وتصف تلك الأيام بضحكة خفيفة: “كنا نغوص في الطين، نتعب ونغني ونضحك، كان المكان قاسيًا، لكن روح الشباب والمثابرة هي من أعطتنا الطاقة للاستمرار”.

و أشجار المانغروف من أكثر الأنواع النباتية قدرة على التكيف مع البيئات المالحة، وهي تُعرف بدورها الحيوي في حماية السواحل من التآكل وامتصاص ثاني أكسيد الكربون. وتنتشر هذه الأشجار عادة في مناطق المد والجزر، وتشكل بيئة طبيعية لتكاثر الأسماك والطيور البحرية. ومع التغير المناخي، أصبح استزراع المانغروف أحد الحلول البيئية المهمة التي تتبناها دول عدة من بينها العراق.

لم يخطر ببال دنيا أن صورتها ستُنشر على الموقع الرسمي للأمم المتحدة، وأن اسمها سيُذكر كواحدة من أبرز المتطوعات في مشروع المانغروف.

تقول: “لم أكن أبحث عن شهرة، كنت أبحث عن معنى لعملي، عن مكان أُثبت فيه أن المرأة العراقية قادرة على التغيير”. وها هي اليوم، خريجة من العشرة الأوائل على دفعتها في كلية الزراعة، مهندسة زراعية ومسؤولة بيئية في جامعة البصرة، تقف كرمز لنجاح لا يُقاس بالشهادات فقط، بل بالشجرة التي تنمو، وبالوعي الذي ينتشر، وبالشباب الذين يلتحقون بالحملات بعد أن رأوا في دنيا نموذجًا يُحتذى به.

ترى دنيا أن “المانغروف هو أمل البصرة، ليس فقط لأنه يقاوم الملوحة وارتفاع الحرارة، بل لأنه يمتص الكربون وينتج الأكسجين ويعيد الحياة إلى السواحل”.

وتضيف: “هذه الأشجار لا تنقذ البيئة فحسب، بل تنعش الحياة، وأتوقع أن يصبح المانغروف وجهة سياحية واقتصادية بعد عشر سنوات”.

علاء البدران، نقيب المهندسين الزراعيين في البصرة، يشير إلى أن شجرة المانغروف شجرة بيئية لها القدرة والقابلية على تثبيت الكربون في جذورها، ولا تحتاج إلى مياه عذبة للسقي، بل تُروى بمياه البحر المالحة بعد معالجتها.

وذكر البدران أن المشروع الأول لاستزراع المانغروف بـ 300 ألف شجرة ضمن مشاريع عام 2023 أُنجز عام 2024 بالكامل، مضيفًا: “نسعى الآن في المشروع الجديد إلى زراعة 500 ألف شجرة من المؤمل أن يُنجز قبل نهاية 2025، وبالتالي يصبح لدينا 800 ألف شجرة”.

ويوضح أن المشروع أُطلق من قبل الحكومة المحلية في البصرة، بتعاون مع منظمة الأغذية العالمية، ويضيف: “شركة الموانئ والحكومة المحلية ومديرية الزراعة استزرعت أكثر من سبعة آلاف شجرة في سواحل البيشة بعد أن طُهِّرت المنطقة من الألغام”.

أما الدكتور أيمن عبد اللطيف الربيعي، الباحث في مركز علوم البحار والمسؤول عن وحدة المانغروف، فيرى في المشروع رسالة بيئية واجتماعية: “المانغروف تحمي السواحل، وتخلق بيئة للأسماك والطيور، وتواجه التغير المناخي. فعندما نزرعها، نزرع حياة جديدة وتشكل موائل حضانة للأسماك الصغيرة، الأمر الذي يعد بالغ الأهمية لدعم مجموعات الأسماك البالغة والروبيان والسلاحف”.

ويكمل الربيعي: “الميزة في شجرة المانغروف أنها تنمو في المياه المالحة لمستوى أكثر من 40 جزءًا بالألف (ppt) في بعض الأحيان، وبالتالي تساهم في دعم المجتمع المحلي وتوفير فرص عمل للسكان المحليين، وخاصة الصيادين، مما ينعكس لاحقًا في تعزيز مصائد الأسماك لتحقيق الأمن الغذائي لأهالي البصرة، إضافة إلى إنتاج الأكسجين وامتصاص غازات الكربون والغازات السامة، مما يساعد بشكل كبير في تقليص مشكلة التغير المناخي والجهد الحراري”.

ويحذر خبراء بيئيين من أن العراق واحد من أكثر الدول تأثرًا بالتغير المناخي في الشرق الأوسط، حيث يشهد انخفاضًا مستمرًا في مناسيب المياه وارتفاعًا في درجات الحرارة.

وتشكل مشاريع مثل استزراع المانغروف جزءًا من خطة أوسع تهدف إلى مواجهة التصحر وإعادة التوازن البيئي في مناطق الجنوب، خصوصًا في البصرة التي تواجه تحديات بيئية متزايدة بسبب الملوحة والنشاط الصناعي البترولي.

ويشرح البدران أن تجربة زراعة المانغروف بدأت عام 2012 لكنها توقفت بسبب ظروف الحرب، ثم عادت بقوة في 2018–2019، ونجحت في زراعة أكثر من 100 ألف شتلة بنسب نجاح عالية بلغت 100% في بعض المواقع.

ويضيف أن المشروع يهدف إلى استغلال المناطق الساحلية التي لا تحتاج إلى ري مباشر، إذ تُسقى الأشجار تلقائيًا بمياه المد والجزر، ما يجعلها نموذجًا ناجحًا لمشروعات بيئية مستدامة في بيئةٍ قاسية مثل البصرة.

بعد أكثر من عقد على أول تجربة، ترى دنيا أن الجهد لم يذهب سدى. تقول: “الإصرار والتواصل وسماع صوتي الداخلي هو ما ساعدني على إكمال طريقي في الحياة والاهتمام بالبيئة”، وتردد عبارتها التي أصبحت شعارًا لحملاتها التطوعية: “اهتم ببيئتك.. راح تهتم بصحتك”.

اليوم، تقف دنيا أمام أشجار المانغروف التي كبرت وامتدت جذورها في الطين، تبتسم وهي ترى ثمرة جهدها تنمو أمامها. ثم تلتفت نحو موقع آخر تعمل فيه مع فريق جديد على مشروع تشجير مختلف، فهي لم تتوقف عند إنجازٍ واحد، بل واصلت ما بدأته لتزرع الأمل في كل بقعة من مدينتها الجنوبية.

أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى