أم حسين.. تصنع البارية وتصارع جفاف الأهوار
المنصة- مهدي الساعدي
في الأهوار الشرقية في محافظة ميسان، تقاوم أم حسين ذات السبعين عاماً شظف العيش الذي رسم علاماته الواضحة على وجهها الرقيق وبنيتها النحيلة، فتقطع عشرات الكيلومترات في رحلة شبه يومية تجمع فيها أعواد القصب.
خلال الأعوام الماضية اتسعت رقعة الجفاف في أهوار ميسان بسبب شحة الأمطار وتحويل جزء من مياه نهر دجلة المارة بميسان إلى محافظة البصرة المجاورة بهدف التخلص من اللسان الملحي فيها.
وبسبب هذا الجفاف “لم يعد سهلاً الحصول على كمية كافية من القصب لصنع البواري (حصائر القصب)” تقول أم حسين بينما تحاول أن تنتزع جزءاً من شظايا الأعواد علقت في باطن كفّها. وتتابع “المستنقعات المائية هنا تحولت إلى أراضٍ جرداء كما هو حال العديد من أهوار الجنوب وصار جمع القصب يتطلب رحلة تستغرق ساعات بعد ان كان بمتناول اليد”.
تغيير ديموغرافي
رغم تقدمها في العمر تضطر أم حسين إلى العمل في صنع “البارية” من دون توقف فولداها معوّقان يجلسان في المنزل دون أن يتلقيا أية مساعدة مالية.
“ولداي وقعها في نفس المرض تباعاً بعد أن أكملا سنّ الثانية عشر، با نعلم ما هو السبب، لكنهما فقدا القدرة على المشي، وعندما راجعنا الأطباء قالوا إنها حالة وراثية علينا التعايش معها والتسليم بالقضاء والقدر وبحكمة رب العالمين”، تقول.
ولكي تكتمل فصول القصة، اضطر زوج أم حسين بعد جفاف الأهوار في منطقتهما إلى التخلي عن مهنته في صيد الأسماك، فصار هو الآخر عاطل عن العمل يرافقها في رحلات جمع القصب ليحقق كلاهما دخلاً بسيطاً بالكاد يكفي لسد الرمق.
لم يكن أبو حسين وحده من خسر عمله بسبب الجفاف بل الكثيرين من ساكني المحافظة طويت أرزاقهم ما دفعهم إلى تبديل مهنتهم أو الهجرة من المحافظة.
يقول الناشط البيئي أحمد صالح نعمة “للمنصة” إن “شحة المياه الواصلة إلى مناطق الاهوار أضرت بالأحياء المائية والبرمائية على حد سواء التي تعيش في تلك المساحات”، مضيفاً أن “الضرر خلق تغييراُ ديموغرافياً في المنطقة بسبب انتقال الكثير من سكان القرى إلى أماكن أخرى، بحثا عن مناطق تتوفر فيها المياه وعن مصادر أعلاف لماشيتهم”.
ثمن زهيد
لإعداد وصناعة البارية يأتي جلب القصب كأولى خطوات عمل أم حسين، فتعود من رحلاتها شبة بحزم القصب (الكارة) تحملها على رأسها فوق قطعة صغيرة من القماش (أوكا).
ينتظرها بعد ذلك عمليات تقشير الأعواد وشقها ودقها ونقعها بالماء على الترتيب، لتصبح أكثر طراوة بعد أن كانت جافة، مستخدمة أدوات تقليدية توارثتها أم حسين كلوازم أساسية للمهنة، اشتقت تسمياتها من العمليات التي تستخدم لأجلها، كالـ “مشكّة” والـ “مدكّة”.
الجلوس لساعات طويلة من أجل نسج أعواد القصب أو ما يسمى بالـ “ليط” والتي عادة ما تكون حادة الحواف، تتسبب بمتاعب كبيرة للسيدة المسنّة، وهي تحتاج لثلاثة أو أربعة أيام جتى تكمل صنع “بارية” واحدة تبيعها بستة أو سبعة آلاف دينار عراقي، ما يعدّ ثمناً زهيداً قياساً بتعب الصناعة.
تقول أم حسين “للمنصة” “ظهري يؤلمني بسبب الجلوس لفترات طويلة، وكفّاي تحولا إلى أشبه ما يكون بالحجر، بسبب كثرة التشققات التي تسببها أعواد القصب الحادة”.
إرث سومري
يقول الكاتب المهتم بالتراث الميساني علي العقابي إن “صناعة البواري مهنة قديمة وإرث سومري خالد وسط الهور”.
ويضيف أن “هذه المادة لا تتدخل الإرادة البشرية في وجودها، ولا يمكن زراعتها لكونها من إنتاج الطبيعة، وقد كان القصب هو العمود الفقري في توفير جميع احتياجات العائلة السومرية سابقاً وهو كذلك اليوم بالنسبة لسكان مناطق الأهوار”.
ويوضح العقابي أن “صناعة البواري تحتاج الى خبرة متوارثة كأي مهنة، لذلك تجد هناك مناطق أو قرى متخصصة في صناعتها، وتمتاز بتعدد الأغراض، منها في تسقيف وتغليف البيوت القصبية والمضايف الكبيرة وفرشها، وإذا كانت على شكل برميل تسمى (كعيدة) وتستخدم لتنقيع بذور الشلب داخل الماء ولعدة أيام قبل نثرها في المزرعة، وتعد البواري المورد الثالث للعيش في الأهوار بعد الزراعة وصيد الأسماك والطيور”.
بينما تروي قصتها كانت أم حسين تفترش “الربعة” وتعني بلهجة أهل الأهوار باحة الدار، تعمل على نسج أعواد القصب وإلى جانبها وعاء صغير تستعمله لرش الماء على الأعواد، فتقضي ساعات طوال وهي تعمل على إكمال “باريتها”.
وتوضح أم حسين أنها تصنع “البارية” بأحجام مختلفة حسب الطلب، وغالباً ما تبيعها لأهالي المناطق المجاورة.
ورغم قلة المردود المالي والمتاعب الصحية المرافقة للعمل تقول أم حسين “للمنصة” “أفضل العمل على الجلوس معوزة أو مدّ اليد طلباً للمساعدة”، وتختم حديثها معنا بالقول “مهما كان مردود صنع البواري فأنه يكفينا ما دمنا نعيش بكد ايادينا ولا نحتاج شفقة الآخرين”.