الجاموس في أهوار الناصرية.. طقوس ولغة خاصة ومخاوف من فقدانها

الناصرية- مرتضى الحدود

يبدو مربي الجواميس فلاح حسين مطمئناً وهو يسوق قطيع جواميسه إلى إحدى المسطحات المائية في أهوار الجبايش في الناصرية طالما أن جاموسته “البرشه” هي من تتولى قيادة القطيع.

يقول فلاح (22 عاماً) ضاحكاً أن “البرشة جاموسة ذكية بوسعها أن توصل القطيع إلى المسطحات المائية من دون حتى أن أكون متواجداً معها”. ويتابع فلاح وصف حيوان الجاموس بانه أكثر ذكاء من غيره اذ يتعرف على الشخص الذي يربيه ويمكنه العودة الى مكان حظيرته عندما تقترب الشمس من المغيب.

ملامح الاطمئنان هذه سرعان ما تزول عن وجه فلاح حين يبدأ الكلام  عن التهديدات التي تلاحق هذا الحيوان جنوبي العراق والتي قد تدفع يوماً ما ربما إلى انقراضه.

فالإحصاءات الرسمية قبل أربعين سنة كانت تشير إلى وجود ما يقرب المليون رأس جاموس في العراق، لم يبق منها اليوم سوى حوالي الثلث، أي 300 ألف جاموس، بسبب شحة المياه، بحسب تصريحات الاتحاد الدولي لمربي الجواميس في العراق، ما يشكل تراجعاً خطيراً.

جواميس تشكّل حكومة

يعد الجاموس أحد اهم الأركان الأساسية للحياة في أهوار الناصرية وبقية المسطحات المائية جنوبي العراق، وقد سجّلت الحفريات الأثرية تواجده في هذه المناطق منذ 4600 سنة على الأقل.

وللجاموس في الأهوار مسميات كثيرة، كل مربي يطلق تسميات خاصة على جواميسه، إلا أن هناك أسماء مشتركة كالـ”برشة” التي تتميز ببياض لون الفرو عند الوجه والأذنين، في حين يكون بقية جسمها أسود اللون، ويصف المربي فلاح هذا النوع بأنه “مطيع جداً لكنه لا يسمع”، فالبرشة صماء وهذا معروف لدى المربين لكنهم لا يعرفون سبب كونها صماء. 

وهناك جاموسة أخرى تسمى الـ”سوده” لما تمتاز به من سواد جسمها بشكل كامل، وهناك الـ”حجله” لوجود طوق ذي لون أبيض عند أقدامها وهناك أيضاً “العطره” ذات القرون الملتوية.

ورغم الحياة البسيطة التي يتمتع بها مربو الجاموس لكن الاهتمام بالشأن العام لم يغب عنهم، وقد أطلق البعض منهم أسماء شخصيات سياسية على حيواناتهم استهزاءً بأدائهم السياسي اذ يجدونهم عاجزين عن تقديم أي خدمة للمواطن.

أما بالنسبة لفلاح، فهو يتحفظ عن ذكر أسماء الزعماء السياسيين التي تحملها جواميسه لكنه يمزح قائلاً: “جواميسي ذكية بما يكفي لتشكيل أربع حكومات في العراق وليس حكومة واحدة”.

نفوق الجواميس

لم تكن حياة المربي فلاح مستقرة في مكان محدد نتيجة الشحة المائية التي هددت حياة الجواميس في الاهوار، فهو دائم الترحال بين اهوار الناصرية والبصرة والعمارة وفي احدى السنوات اضطر للذهاب الى محافظة النجف محاولا إيجاد بيئة أفضل لتلك المواشي.

فالجواميس تعتاش على ما تنبته المسطحات المائية من نباتات طبيعية كالقصب والبردي، لكن بسبب أزمة السدود التي يشهدها العراق مع جارته الشمالية تركيا وانخفاض منسوب نهر دجلة منذ عام 2017 فضلاً عن شحة الأمطار والتقلبات الحاصلة في المناخ تستمر مساحة الأهوار بالانحسار التدريجي، ويسجل فلاح وغيره من المربين نفوق أعداد كبيرة من الجواميس.

الشحة المائية انعكست بشكل واضح على أسعار العلف المركّز الآخذة بالارتفاع دون أن توفر الحكومة دعماً لها، لذا يضطر مئات المربين لبيع قطعانهم من الجواميس والبحث عن مصدر معيشي آخر أو يتركونها ببساطة تعاني من الهزال والمرض دون أن يتمكنوا من فعل شيء.

مسؤول منظمة الجبايش للنشاط البيئي رعد الاسدي يرى ان تقلص مستوى الإغمار لمياه الاهوار انعكس سلباً على حياة المربين اذ بلغت اعداد الجواميس 35 ألف رأس جاموس في اهوار ذي قار بعد ان كان العدد هو ضعف قبل ستة سنوات تقريبا. 

ويتابع قائلاً إن مستوى انتاج الحليب للجاموسة الواحدة انخفض إلى النصف بعد ان كان يبلغ 20 كيلو وسطياً في اليوم الواحد ليصل الى 10 كيلو جرام اليوم، وهذا بحسب الأسدي “يشير إلى تراجع مستوى الدعم الحكومي لهذه الشريحة من المربين ولهذه البيئة الطبيعية النادرة والهامة”.

جواميس في الأساطير

أهوار الجبايش دخلت الى لائحة التراث العالمي عام 2016 وتم تسجيلها كمحمية طبيعية، ما يعني أنها من ضمن المواقع الفريدة التي يجب الحفاظ عليها وابعاد خطر الاندثار عنها فضلاً عن ان وجودها على هذه اللائحة يعني حافزا اضافيا لتشجيع السياحة إليها.

لكن بخلاف ذلك، يشتكي أهالي المنطقة وخصوصاً المربّين من إهمال الحكومات المتعاقبة لهم ولمنطقتهم، إذ تشهد الاهوار زيارة أعداد قليلة من السائحين من الأجانب والعرب رغم وجود مئات التقارير الإعلامية التي تتحدث عن أهمية المنطقة.

الباحث جبار الخويبراوي يشير إلى أن الاكتشافات الأخيرة تؤكد ان الجاموس الذي يكثر في مناطق الاهوار جنوبي العراق يعود الى ازمنة قديمة وكان اكثر وحشية ثم تم تدجينه في منتصف الالف الرابع قبل الميلاد اذ كان يخافه الانسان اكثر من الأسود والثيران الوحشية.

ويقول الخويبراوي “هذا ما أشارت اليه النقوش السومرية القديمة لأبطال اسطوريين انصاف الالهة وهم يصرعون الجاموس الوحشي كالبطل الأسطوري كلكامش، اذ وجدت العديد من الالواح والاختام فيها مصارعته للاسود والجاموس لذا فان الجاموس كان موجوداً في منطقة الأهوار قبل أن يظهره السومريون الفنيون على أختامهم وألواحهم بزمن طويل”.

أما الدكتور حسين الزيادي وهو أستاذ الجغرافيا في جامعة ذي قار فيقول أن الجاموس هو ركيزة أساسية لحياة الاهوار منتقدا الإهمال الحكومي الذي لم يعط اهتماما حقيقا بتلك البقعة رغم المؤتمرات والندوات التي انعقدت وصرف الأموال عليها، “ولكن بقيت حياة الانسان الاهواري بسيطة من دون أي تقدم فلم تكن هناك أي بوادر إيجابية تحقق النمو الاقتصادي”.

فلاح الذي يعمد الى اطلاق لحن معين من فمه يسمى “الشلي” يخاطب من خلاله قطيعه الموجود وسط المياه يصمت فجأة عندما نسأله عن مصير هذا القطيع ثم يقول: “ورثت هذه المهنة عن أبي وورثها هو بدوره عن أجداده.. كل ما أتمناه أن لا تدفعنا شحة المياه إلى أن نهجر مهنتنا وأن نفقد جواميسنا، فمن دونها لن يكون لحياتنا أي معنى”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى