“ورشة مشتاق” في بغداد.. لإصلاح وترميم الذاكرة

 

مينا القيسي – بغداد

في أولى ساعات الصباح وقبل أن تدبّ الحركة في ساحة الميدان في بغداد يفتتح السيد “مشتاق جاسم” محله المتخصص بإصلاح أجهزة الجرامافون والردايوهات القديمة.

الرجل الستيني الملقب بأبي طالب يبدأ يومه في المحل بشرب كوب من الشاي مع جيرانه أصحاب المهنة، ثم يشغل أغنية لعبد الحليم حافظ ويضع أمامه جهازاً قديم الصنع يحتاج إلى تصليح ويبدأ بفك قطع منه واستبدالها بأخرى.

يعمل أبو طالب في هذه المهنة منذ ما يقارب العشرين عاماً، قاده إليها شغفه بآلات الجرامافون قديمة الصنع سواء كان منشؤها بريطاني، ألمان، أمريكي أو هنديّ، لكنه مشاعره تتحرك أكثر كلما وصله جهاز جرامافون عراقي الصنع يحتاج إلى إصلاح.

يقول: “هذه الآلة موجودة في بيوت كثيرة في العراق، يعتز مالكوها بها ويقدرون قيمتها التراثية”، ويتابع بفخر: “خبرتي التي اكتسبتها خلال سنوات جعلتني قادراً على إصلاح أنواع منها عجز أصحابها عن فهم سبب عطلها”.

والجرامافون جهاز ينتج أصواتاً سجلت على أسطوانات سمعية، يعرف أيضاً باسم الحاكي ويعمل الطراز القديم منه بطريقة نقل معلومات تسمى التسجيل التّماثلي.

يروى السيد مشتاق خطواته الاولى في هذه المهنة منذ أن درس الميكانيك وعمل في الجيش العراقي لفترة، ليجد نفسه بعدها بلا عمل. 

يقول: “كنت مضطراً للبحث عن عمل لأوفر قوت يومي، استمريت في الشغل هنا وهناك إلا أنني لم أجد نفسي في أي مهنة حتى صادفت هذه الآلة السحرية التي اخترتها واختارتني لتكون مهنتي الأبدية”.

في تلك الأيام واظب مشتاق على التعلم المستمر من أصحاب الخبرة الذين يكبرونه سناً حتى أصبحت جاهزاً للبدء، ففرش على بسطة في الشارع بعضاً من الأجهزة العاطلة عن العمل بعد ان اشتراها من أصحابها ثم بدأ بتصليحها وبيعها. “هكذا صار لدي من يرتادني دوماً و يبحث عني، ثم بعدها بسنوات قليلة افتتحت هذا المحل الصغير الذي هو اليوم كل ما أملك وفيه أقضي كل وقتي”، يقول.

دخل الجرامافون إلى العراق في العقد الثاني من القرن الماضي فأقبل عليه المترفون في تلك الفترة ثم انتشر تدريجياً في المقاهي والبيوت البسيطة. وتتردد حكايات كثيرة وطريفة عنه منها أن العجائز كنّ يخفن منه ويقلن إنه صندوق أسود مسكون بالجان. وهناك من وقف ضده ودعا إلى تكسيره، لكن وبمرور الوقت كانت له العديد من الوظائف، لعل أهمها وأبرزها تسجيل وإذاعة الموسيقى وقراءة الكتب للمكفوفين.

لا يختص السيد مشتاق بتصليح الآلة فقط، بل هو شغوف أيضاً بإصلاح الأسطوانات التي يعتبرها “روح الجهاز ولغته”، ويقوم كذلك ببيع العديد منها، أمثال الأسطوانات الحجرية الخاصة بتسجيلات الحاج فتحي الجقماقجي التي تعد ذاكرة موسيقية مفقودة طبعت آنذاك في دولتي السويد وباكستان. 

وفي محل أبي طالب أيضاً يمكن العثور على أسطوانات قديمة طبعت في بريطانيا للفنانين العراقيين حضيري أبو عزيز وداخل حسن، وأسطوانات أخرى طبعت في لبنان للمطربة فيروز.

أما الأسطوانات البلاستيكية فيوجد العديد منها للسيدة أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وعفاف راضي وفنانين آخرين ظهروا على الساحة الغنائية منذ ثلاثينيات حتى سبعينيات القرن الماضي.

يقول أبو طالب: “أمتلك الى جانب المطبوعات العربية العديد من المنوّعات الأجنبية والسمفونيات العالمية أمثال بحيرة البجع و كسارة البندق للموسيقار الروسي تشايكوفيسكي وكذلك أعمال لبيتهوفن وللإسباني خوليو إجلسياس. كما أنني أمتلك تسجيلات نادرة وثمينة لا أقبل ببيعها مهما كان الثمن”.

ويضيف: “كل ما يوجد في السوق هي أسطوانات قديمة الصنع يتم تداولها بين الناس وأصحاب المهنة عن طريق البيع والشراء، ولا يوجد صنع جديد بسبب انحسار الطلب عليها وارتفاع أسعارها، فاليوم أصبح بمقدور الجميع أن يستمع إلى الأغاني عبر أجهزة الموبايل عوضاً عن صرف الأموال على طبع الأسطوانات”.

وتعد الاسطوانة أول أداة لتسجيل الصوت، وهي بأحجام وأشكال مختلفة، وتعمل على الجهاز نفسه، اشتهرت كثيراً في العراق أوائل القرن الماضي فكان هنالك الكثير من المهتمين بها أمثال “عبدالله الزبيري” من منطقة الزبير بالبصرة، الذي كان يملك جهاز حاكي وكان يسجل للناس أصواتهم في المقاهي ثم يسمعهم إياها.

ياسين العلي، شاب ثلاثيني أحضر جهازه الجرامافون إلى السيد مشتاق لصيانته. يقول: “توارثنا أنا وأخوتي الثلاثة من والدنا آلة جرامافون نوعية (مستر فويس) هندية الصنع، جسمها من الخشب وبوقها من النحاس الأصفر المنقوش، وهي بالنسبة لنا قطعة ثمينة نحافظ على ديمومة عملها ونعتز بها”.

ويضيف: “الجرامافون بالنسبة لي إضافة راقية داخل المنزل، أسعد كثيراً عندما يزورني الأقارب ويسألونني عنه فأبدأ بالشرح لهم عن تفاصيله”.

وبحسب السيد مشتاق فإن هناك زبائن خاصين لهذه الآلة هم قلة قليلة، “معظمهم من العوائل العراقية القديمة التي غادرت البلاد”، أما فئة الشباب التي ترتاد المحل اليوم فهم من المهتمّين بالأنتيكات وبالتراث الموسيقي.

بينما كان السيد مشتاق يتحدث إلينا من خلف نظارته مد يده لتفحص مدوّر الأسطوانات ثم توقف عن الحديث وقال لزبونه إن جهازه لا يحتاج إلى جهدٍ لتصليحه، بل يكفي تنظيف الماكينة من الغبار لتعود الى العمل، ثم أضاف ضاحكاً “رغم أنني أقترب من السبعين من عمري إلا أن هذا الجرامافون سوف يعيش أطول مما عشت”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى