كيف نقطف التمر من دون “صاعود النخيل”؟

الناصرية- مرتضى الحدود

يتذكر “محمد عذيب” ذلك اليوم الذي سقط فيه من أعلى نخلة وهو يقطب ثمار “الرطب” في أحد بساتين محافظة الناصرية فنتج عن وقوعه كسرٌ في اليد اليمني وتمزقات عضلية جعلته طريح الفراش ستة أشهر.

ومع أن الرجل الأربعيني استمر في مزاولة مهنة “الصاعود” بعد تماثله للشفاء لكن كثيرين غيره يبتعدون عن العمل بتسلّق أشجار النخيل وقطف “الرطب” في محافظات الجنوب العراقي لخطورة العمل بهذه المهنة وقلّة المكاسب التي تعود عليهم.

ورث “محمد عذيب” مهنة صعود النخل عن أبيه وجده، وبينما كان يستعد لتسلق إحدى النخلات لقطف “الرطب” في أحد بساتين جنوب شرق الناصرية كان يتحدث للمنصة عن طبيعة هذه المهنة المحفوفة بالمخاطر ممسكاً بيده أداة التسلق المسماة “الفرود” وفي اليد الأخرى سلة مصنوعة من سعف النخيل أو ما يسمى “زبيل”. 

يقول “عذيب” إن مهنة “الصاعود” بدأت تندثر ، فبالرغم من حلول موسم جني ثمار النخيل (الرطب) لكن لا يجد في محيطه القريب من يمتلك الأهلية لصعود النخيل وجني الثمر، مضيفاً أن “الجيل الحالي من الشباب يرغب بالذهاب إلى سوق العمل الأكثر مرونة والأقل خطورة كالعمل في التجارة أو الحصول على وظيفة”.

يوضح “عذيب” أن لهذه المهنة فترات محددة للعمل تبدأ في شهر تشرين الأول (اكتوبر) من كل عام عند هطول الأمطار وابتلال جذوع النخيل ليقوم الصاعود بعملية إزالة الأجزاء الميتة أو الزائدة من الجذع وتسمى هذه العملية “تكريب النخيل”. واختير هذا التوقيت لأن الأشجار تكون فيه أكثر رطوبة.

وهو يستخدم عند صعوده النخلة في أوقات “التكريب” منشاراً كهربائياً بينما كان والده يستخدم منجلاً حاداً قبل عقود. 

تستمر هذه العملية حتى نهاية كانون الثاني (يناير) وبعدها تبدأ عملية تلقيح النخيل عبر استخدام بذور ذكر النخيل ونقلها للأنثى لغرض الإخصاب وتستمر هذه العملية حتى نهاية آذار (مارس) من كل عام.

ويكمل “عذيب” أن للنخيل أجواءً مناخية خاصة للإنبات فهو يحتاج إلى طقس حار كي تنمو ثماره بشكل جيد وتسمى هذه الفترة التي ينضج بها التمر “طباخات الرطب”.

تتناقل المرويات الشعبية قصصاً كثيرة عن فترة “طباخات الرطب” ويقال إن أحد الولاة العثمانيين جاء إلى العراق أثناء فترة موجة الحر وعندما سأل عن أسباب هذه الموجة كانت الإجابة بأنها “طباخات الرطب” فأمر بقطع أشجار النخيل للتخلص من هذا الحر، إلا أن الوالي رحل وبقيت بساتين النخيل على امتداد أراضي الجنوب العراقي.

ويشرح “عذيب” أن عملية نضوج التمر تبدأ في منتصف تموز (يوليو)، ويختلف توقيت القطاف بحسب اختلاف نوع النخلة فأسرع الثمار نضوجاً تسمى “الاستعمران”، بعدها ينضج نوع آخر من شجر النخيل هو “الشويثي” وهو ذو نوعية جيدة ويباع بسعر أعلى من بقية الأنواع، ومن بعده “الشكر”.

إلا أن أعداد نخلة “الشويثي” قليلة في الناصرية ويتم التعامل مع المحصول من خلال البيع بالجملة، أي أن أقل كمية للبيع تزن 75 كيلو جراماً وبقيمة تتراوح ما بين 200 ألف دينار وحتى 400 الف دينار للكيلوجرام الواحد، أما بقية أنواع “الرطب” فتتفاوت أسعارها ما بين 1500 دينار وحتى الخمسة الاف دينار للكيلوجرام.

أما أجور “صاعود النخيل” فلا تكون بعدد النخلات التي تسلقها بل بكمية المحصول الذي جناه، إذ يحصل على جزء من المكسب الإجمالي بعد الاتفاق مع صاحب البستان، وتتراوح بين ربع ونصف قيمة بيع المحصول، لذا يحاول الصاعود خلال فترة النضوج أن يقوم بجني أكبر كمية ممكنة من الثمر.

وتسجل أعداد النخيل في العراق تراجعاً إلى أدنى مستوياتها بالمقارنة مع أعدادها في ثمانينيات القرن الماضي والتي بلغت قرابة الـ30 مليون نخلة. وبحسب الناطق الرسمي باسم وزارة الزراعة حميد النايف فإن هناك 18 مليون نخلة في العراق اليوم. 

الشاب العشريني صادق حسين من الشباب القلائل المتمسكين بهذه المهنة التراثية، يشرح للمنصة طريقة صعود النخلة قائلاً إنه يستخدم أداة تسمى “الفرود” تتكون من حبل وسلك معدني غليظين يشكلان دائرة، يتم ربطهما بما يسمى “السفيفه” وهي أشبه بقطعة قماش عريضة يضعها الصاعود أسفل ظهره ليتمكن من الاتكاء عليها والوقوف في أعلى النخلة.

ويحمل الصاعود في يده سلة من “الخوص” ومنجل ليقوم بقص ثمر الرطب ووضعه في السلة، أو يضع فراش بلاستيكي عريض على الأرض تحت النخلة فيقطع العنقود الكبير ويرميه إلى الأرض.

كمية الثمار متفاوتة من نخلة الى أخرى بحسب صادق، فالبعض منها يصل إنتاجها الى خمسة كيلو غرامات والبعض الآخر إلى ثمانين كيلو غرام كما تتفاوت فترة نضج الثمار بحسب طول النخلة، فالتي يقل طولها عن خمسة أمتار تستغرق وقتاً أطول بسبب ظلال الأشجار المحيطة بها ما يجعل تعرضها لأشعة الشمس قليلاً أما التي يبلغ طولها 15 متراً فيكون نضج رطبها سريعاً.

ويكشف الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط ان محافظة ديالى هي الأعلى بين بقية المحافظات العراقية بعدد أشجار النخيل استناداً لاحصاء عام 2020 اذ بلغ حوالي مليونين وستمائة ألف نخلة تليها بغداد ومن ثم بابل. 

وكانت محافظة ميسان الأقل بعدد النخيل ولديها حوالي المليوني نخلة أما إناث النخيل في العراق فيقارب عددها 17 مليون نخلة ويبلغ متوسط انتاجية الواحدة منها قرابة 68 كيلو غرام.

     

“عباس عبد” البالغ من العمر 55 عام ترك العمل في مهنة “الصاعود” نتيجة كثرة أمراضه إلا أنه يعشقها على حد قوله فعندما يحل موسم جني الثمار يعمد الى الذهاب نحو النخيل ليراقب عملية قطف الثمار.

يأسف “عباس” على ترك العشرات من زملائه العمل وعلى عزوف الشباب عن ممارسة المهنة، ويقول:  “رغم خطورة العمل فيها إلا أن الصاعود الجيد لا يصيبه مكروه فعادة ما يكون الإهمال هو المتسبب بسقوطه من اعلى النخلة”.

ويرى “عباس” أن هذه المهنة ستبقى محافظة على وجودها “ما دام هناك نخيل في جنوب العراق”، وباعتقاده “ليس هناك تقنية قادرة على إزاحتها ولا يمكن قطف الرطب من دون الصاعود”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى