سوق الرشيد.. بيت العود البغدادي
بغداد- مصطفى محمد
مزيج من موسيقى عذبة وأصوات مطارق تشدك وانت تمر بشارع الرشيد التراثي وسط بغداد، لتجد نفسك في سوق عريق تخصص في صنع آلة العود الموسيقية العراقية عبر الزمن،.
حين تضع أقدامك في أحد المحال العتيقة بهذا الشارع العريق يبهرك ذلك الكم من صور الفنانين والمثقفين الذين زاروا هذا السوق وتبضعوا أجود أنواع العود منه.
في ورشة لصناعة العود في شارع الرشيد قرب جامع حيدر خانه، ينهمك علي حسين الكناني، 23 عاماً، بوضع اللمسات الاخيرة على عود أنهى للتوّ صنعه. يركّب الأوتار ويتأكد من جمال الصوت.
ورث علي المهنة عن أبيه أحد صناع العود المعروفين، يمارسها منذ كان في الثالثة عشر من عمره. يقول للمنصة إن “صناعة العود في العراق صناعة قديمة تعود إلى الحضارات السومرية والبابلية والاكدية وهي مستمرة الى يومنا هذا ومازالت في تطور مستمر”.
يبدأ عليّ أولى ساعات العمل في الورشة عند الساعة التاسعة صباحا، ويغلق عند الساعة العاشرة مساء. حال وصوله يجهز كأساً من الشاي ويقوم بترتيب الورشة وتنظيفها ثم يمرّ على الأعواد قيد الصنع، فينجز مرحلة في كل واحد منها.
“لديّ زبائن دائمين من خارج العراق وأيضاً فنانين عراقيين يأتون لشراء العود، منهم حاتم العراقي و حسن بريسم و عوده فاضل” يقول فخوراً بنفسه، ويضيف أن “أكثر أنواع العود انتشاراً ورغبة في السوق هو العود الشرقي المصنوع من خشب السيسم نظراً لمتانة هذا النوع من الخشب وللصوت الجميل الذي يخرج منه”.
غير بعيد عن ورشة الكناني، يجلس سنان سمير (45 عاماً) في ورشته لصناعة وإصلاح العود. يتحدث ممسكاً بيده آلة قيد الصنع قائلاً “إن صناعة العود تحتاج إلى خبرة ودقة عالية ومعرفة واسعة بأنواع الخشب المستعمل”، موضحاً أن لكل نوع من الاخشاب وظيفة معروفة وصوت مميز ومكان محدد في جسم العود.
يضيف سمير أن العود يصنع على مراحل وتستخدم فيها أنواع مميزة من خشب السيسم والأبنوس والصندل والزان والرارنج والمهوكني والجاوي وخشب الورد وغيرها من الأخشاب.
ويتم تشريحها على شكل قطع لصنع “الطاسة” وهي ظهر العود المقوس، أما وجه العود وهو الجزء الاهم فيحتاج إلى مهارة خاصة ودقة بمعرفة سمك الخشب الذي يصنع منه والنقوش التي تزينه. وفي النهاية يتم تثبيت زند العود ومجموعة بيت مفاتيح وأخيراً تثبت الأوتار على العود ليصبح جاهزا للعرض والعزف.
يؤكد سمير أن سوق العمل كان أفضل خلال فترة السبعينيات والثمانينيات، فالعمل في ذلك الوقت كان لاينقطع وطلبات الفنانين العراقيين والعرب متواصلة.
ويكمل: “كنا نبيع آلة العود التي نصنعها يدوياً للسياح والوفود التي تأتي للمشاركة في المهرجانات مثل مهرجان بابل، وكذلك في الاحتفالات الرسمية بالمناسبات والأعياد الوطنية، لكن الأمور تغيرت بعد العام 2003 إذ قلّ عدد المهرجانات الفنية وتدهورت الأوضاع الأمنية والاقتصادية”.
يشير صانع العود البغدادي إلى أن أسعار العود تتفاوت، وتتراوح عموماً بين 400 و 600 دولار، لكن هناك أنواع تتخطى حاجز الـ 1000 دولار بسبب تكلفة صناعتها.
ويبدو سمير هو الآخر فخوراً بزبائنه المعروفين على مستوى محلي وعربي ويقول للمنصة: “لدي زبائن من دول مختلفة ومنها السعودية والامارات وقطر وعمان، وفي العراق لدي زبائن من الفنانين العراقيين، منهم ياس خضر ومهند محسن وكاظم الساهر و نصير شمه صاحب بيت العود”.
خلال تجولنا في الشارع الأعرق والأشهر لصناعة الأعواد التقينا أيضاً بـ عدنان الأمير (37 عاماً)، وهو شاعر وملحن فضلاً عن كونه متقناً لصناعة العود.
عمل عبد الأمير في هذه المهنة “حباً بالآلة” وليس بغرض العيش منها، وافتتح قبل سبع سنوات مع صديقه الملحن ايهاب محمد “دار صالح الكويتي” لصناعة الأعواد وتعليم العزف عليها.
يبدأ الملحن العراقي يومه بضبط الأعواد الموجودة لديه والتأكد من أنها جميعاً على نفس درجة الدوزان، ثم يتدرب لساعتين أو أكثر على تقنيات جديدة في العزف، وبعدها يقابل الطلبة والزوار.
ويوضح عبد الأمير ان هناك نوعان من العود، الأول ذو فرس ثابت (الفرس قطعة خشبية تلصق على وجه العود) ويسمى العود الشرقي الطربي، أما النوع الثاني وهو عود التكنيك أو عود السّحب، فتكون الفرس فيه متحركة في قعر العود، ويستخدم في العزف الانفرادي.
ولا يوجد سعر واحد للأعواد التي يمتلكها عبد الأمير، “فالأمر يتوقف على المواصفات التي يطلبها الزبون من حيث نوعية الخشب واللون والنقوش والزخارف التي يريدها والحقيبة التي يوضع فيها ونوعية الجلد الذي تصنع منه”، مشيرا إلى أن هناك أنواع بسيطة الصنع تباع بأسعار مناسبة لطلبة المعاهد الموسيقية.
ويضيف الامير أن زبائنه متنوعون أيضاً، بعضهم من داخل العراق وهم فنانين وملحنين، وآخرون من الخارج يفضّلون اقتناء آلة العود البغدادية، أبرزهم الملحن سرور ماجد.
ويعتبر غسان مجيد الطائي (75 عاماً) وهو عازف عود ومتقن للمقام التراثي البغدادي أن الكثير من المعالم التراثية والثقافية قد فقدت بريقها بعد عام 2003 فحصل تراجع كبير في صناعة هذه الآلة رغم شهرة العراق بها.
ويستدرك قائلاً إنه “رغم الصعوبات وبوجود عدد لا بأس به من الحرفيين الذين أجادوا هذه الصنعة أابدعوا فيها تمكنا من الوصول إلى العالمية، وما زال العود البغدادي يحظى باهتمام قطاع كبير من الفنانين وطلاب كليات ومعاهد الفنون وهواة الموسيقى الذين يأتون من مختلف البلاد لشرائها من ورش السوق”.