بسبب التغير المناخي: محافظة ذي قار تفقد اكتفاءها الذاتي من المحاصيل الزراعية
الناصرية- مرتضى الحدود
أنهى الحاج عبد الكريم حميدي حراثة أرضه في آب (أغسطس) الماضي استعداداً لزراعة الحنطة، لكنه لا يبدو متفائلاً بالموسم القادم بسبب شحة المياه وتقليص الحكومة مساحة الأراضي المسموح زراعتها في خطتها السنوية.
الرجل الستيني الذي كان حين قابلناه جالساً في إحدى زوايا مضيفه الاسمنتي يراقب أرضه من بعيد وكأنه على موعد فراق معها لطالما تعامل مع هذه الأرض كأعز ما يملك، لكنها اليوم على حد قوله “لم تعد تفي بوعدها السنوي” فقد أمسكت السماء غيثها وتراجع منسوب المياه في الأنهر.
تبلغ مساحة الأرض التي يمتلكها عبدالكريم حميدي 5 دونمات (الدونم يعادل 2500 متر مربع) وتقع في شمالي محافظة ذي قار ضمن ما يسمى حوض الغراف المائي الذي يتغذى من نهر دجلة، وتبدأ الحراثة بها مع نهاية فصل الصيف كي تتعرض التربة لأشعة الشمس وحركة الهواء.
لكن مهما كان حجم الأرض التي يمتلكها هذا المزارع فإنه ملزم بتنفيذ الخطة التي تقترحها مديرية زراعة ذي قار بشكل دوري، والتي تلزم الفلاح بزراعة مساحات محددة وبمحاصيل محددة أيضاً.
وتبلغ مساحة محافظة ذي قار الواقعة على بعد 350 كيلومتر جنوب العاصمة بغداد حوالي 5160 ألف دونم، منها 51% غير صالحة للزراعة، أما المسموح زراعته فعلا ضمن الخطة السنوية فعادةً ما يتراوح بين 400 و500 ألف دونم سنوياً.
لكن خطة مديرية زراعة ذي قار لهذه السنة أقل من التوقعات بكثير، ويوضح عبد الكريم أن المسموح في هذه السنة هو زراعة 135 ألف دونم فقط نظراً لما يمكن تخصيصه من حصة مائية سنوية، وهو ما ترك جزءاً من أرض عبد الكريم وأراض فلاحين آخرين خالية تماماً من الزرع.
وكانت محافظة ذي قار قد تمكنت في عام 2019 من إنتاج كميات من الحنطة بلغت بحسب فرع تجارة الحبوب بالمحافظة 173 ألف طن وهو ما حقق الاكتفاء الذاتي لسبعة أشهر من السنة. وفي 2021 ارتفع الإنتاج لتحقق المحافظة اكتفاءً كاملاً تقريباً بمحصول تسويقي بلغ 249 ألف طن.
لكن سرعان ما انخفضت كمية الإنتاج في عام 2022 بعد تقليص الخطة الزراعية بشكل مفاجئ بسبب ظروف التغير المناخي لتصل الكمية المسوقة إلى 67 ألف طن وهي لا تكفي لشهرين ونصف، وبذلك أصبحت المحافظة خارج الاكتفاء الذاتي.
مدير زراعة ذي قار الدكتور صالح هادي تحدث للمنصة بأن الخطة الزراعية التي ينطلق تنفيذها منتصف تشرين الثاني (نوفمبر) من كل عام تقلصت بنسبة 50% للموسم 2021 عن الموسم الذي سبقه لتبلغ المساحة المتاحة للزراعة 219 ألف دونم منها 183 ألف دونم لمحصول الحنطة والمتبقي للشعير والخضراوات.
ويضيف أن الخطة الزراعية تقلصت من جديد للموسم الحالي 2022 لتصل نسبة المتاح زراعته 60% فقط من السنة السابقة حيث تم الموافقة على زراعة 135 ألف دونم منها 121 ألف دونم للحنطة.
ويكمل مدير زراعة حديثه بالقول إن انتاج الدونم الواحد من الحنطة في أفضل حالاته يتراوح بين 900 طن و1250 طن وعادة ما تكون هذه الأراضي عند حوض الغراف المائي لعذوبة مياهه فضلاً عن اهتمام الفلاح بأرضه ونوعية البذور المستخدمة والسماد. أما الأراضي الموجودة عند حوض الفرات المائي فيتراوح إنتاج الدونم الواحد منها بين 750 طن و900 طن بسبب ارتفاع نسبة ملوحة المياه وطبيعة الأرض.
ورغم أن المحافظة الجنوبية تمتلك أكبر شبكة إروائية على مستوى العراق لكن الصعوبة تمكن في إيصالها المياه إلى جميع الأراضي الزراعية، اذ تبلغ مساحة هذه الشبكة 9100 كليومتر طولي من انهر وجداول مائية متفرعة و هذا الحجم الكبير من الأطوال النهرية لم يبطّن منه بشكل نظامي من خلال صبات خرسانية سوى 1% فقط، وهي صبّات تستخدم لمنع نفاذ المياه إلى باطن الأرض.
وتحدث هذه الخسارة اليومية للمياه في الوقت الذي يعتمد فيه فلاحو المحافظة على آلية السقي بالسيح والمضخات المائية ونادراً ما تستخدم فيه تقنيات حديثة كالتنقيط.
أما أسباب تقلص المساحات الزراعية لهذه السنة فيعود بحسب مختصين الى الشحة المائية الكبيرة التي تعاني منها البلاد بسبب التغييرات المناخية.
وتمتلك المحافظة أكبر مسطح مائي طبيعي وهي الاهوار البالغة مساحة إغمارها 5560 كيلو متر مربع، لكنها تعرضت للجفاف هذا العام بنسبة 98% أي بمساحة 5400 كيلو متر مربع، بحسب مسؤول منظمة “طبيعة العراق” المعنية بشؤون البيئة والاهوار جاسم الاسدي.
هذه المساحة الأهوارية الجافة تسببت بهلاك 4000 رأس من الجاموس فأصبح حوالي 1200 مربياً للجاموس مهددين بالهجرة إلى مناطق أكثر وفرة مائية و 1500 صائد للأسماك عاطلين عن العمل بحسب مدير زراعة ذي قار الدكتور صالح هادي.
وحذرت الامم المتحدة في حزيران (يونيو) الماضي من ان العراق يواجه تحديات متعددة ومتفاقمة ناجمة عن التغييرات المناخية، بما في ذلك موجات الحر الطويلة، وانخفاض معدل هطول الأمطار، ونقص وفقدان الأراضي الخصبة، وملوحة التربة، وعدم كفاية الاستثمارات في البنية التحتية، ونقص المياه العابرة للحدود، وانتشار العواصف الترابية، موجهة دعوة إلى اتخاذ إجراءات لحماية البلد من الآثار المدمرة للتبدل المناخي.
وورد في دراسة استقصائية أجرتها الأمم المتحدة عام 2021 أن العراق واحد من بين الدول الخمسة الأولى الأكثر تضرراً من التغييرات المناخية وهو في المرتبة الـ39 من بين الدول الأكثر هدراً للمياه في ظل انخفاض قياسي بمعدل سقوط الأمطار في العام الماضي 2021 ليكون ثاني أكثر موسم جفاف منذ 40 عام.
ووفقاً للدراسة التي شملت سبع محافظات عراقية، فإن 37٪ من مزارعي القمح و 30٪ من مزارعي الشعير يعانون من فشل المحاصيل.
وفي الوقت نفسه انخفضت الإيرادات في أهوار العراق الغنية بمواردها الطبيعية والتي تمثل سبيل لكسب العيش وخط الدفاع الأول ضد التغيرات المناخية والأضرار البيئية، إذ إن انخفاض مستوى المياه في نهري دجلة والفرات تسبب بارتفاع مستويات الملح مع وجود تبخر سنوي يصل إلى 3 أمتار.
مدير الأنواء الجوية في الناصرية علي طارق اشار إلى أن أعلى كمية للأمطار خلال عامي 2020 و2021 كانت بحدود 31 ملم وهو أدنى مستوى تم تسجيله منذ ما يقارب الخمسين سنة تقريباً.
رئيس الجمعيات الفلاحية في ذي قار السابق مقداد الياسري يجد وفقاً لمعطيات الواقع الزراعي وانخفاض المستوى الإنتاجي للمحاصيل الاستراتيجية كالحنطة والشعير أن أكثر من 50% من المزارعين يفكرون حالياً بتغيير مهنتم إلى مهن أكثر فاعلية ذات مردود مالي من قبيل فتح مشروع تجاري والانتقال الى المدينة.
كما يؤكد مختصون في المجال الزراعي أن ذي قار ستكون خارج خطة الاكتفاء الذاتي للعام الثاني على التوالي بعد تقلص الخطة الزراعية الموسمية.
ويبقى الحاج عبد الكريم حميدي في حيرة من أمره، متسائلاً إن كان الموسم الزراعي الحالي هو الفاصل بين بقائه مزراعاً، أو الاستغناء عن هذا العمل والبحث عن سبل عيش أخرى.