بائع الأحجار الكريمة و”الفتّاح فال”.. عوالم غرائبية في سوق “الهرج”

بغداد ــ حسنين علاء 

على رصيف مزدحم في سوق “الهرج” في بغداد يقف العم أبو حسين ذو الخمسة وخمسين عاماً إلى جانب بسطة لبيع الأحجار الكريمة بينما يتحلّق الزبائن من حوله يسألون وسط الضجيج عن أنواعها وأسعارها.

بدأ “أبو حسين” مسيرته في هذه المهنة قبل أكثر من ثلاثين عاماً هاوياً لجمع الأحجار الكريمة، لكن مع مرور الوقت اكتسب خبرة واسعة ومعلومات تفصيلية عن كل حجر منها، فترك عمله في مجال المقاولات وانتقل إلى السوق للمتاجرة بها.

يقول: “كنت أذهب لشراء الأحجار القديمة كلما أصبح لدي بعض المال. بعدها فتحت محلاً أبيع فيه الحجارة الكريمة والخواتم والساعات وقطع الأنتيكا لكني اضررت لإغلاقه لاحقاً وصرت أبيع على الرصيف”.

خلال سنوات عمله في السوق كان “أبو حسين” الذي اتعبه التدخين وسبب له بعض المشاكل الصحية يبدي مرونة عالية في التعامل مع الزبائن، فيشرح لهم بصوته الأجش منشأ كل حجر كريم يمتلكه وقيمته، وأي نوع من الأشخاص يناسب، كما يبدي تهاوناً في أسعار البيع إذا ما وجد لدى الزبون شغفاً في امتلاك هذا الحجر أو ذاك.

يقسّم العم “أبو حسين” الأحجار التي يمكن مشاهدتها فوق قطعة القماش الأبيض على طاولته إلى نوعين؛ أحجار كريمة وأحجار المجوهرات فيذكر من الأحجار الكريمة العقيق اليماني والسليماني والفيروز والجزع والحجر الصيني، أما المجوهرات وهي أغلى ثمناً ولا يعرضها على الطاولة، فيذكر منها الياقوت والألماس والزمرد والزبرجد والتوباس والتورمالين. 

ولهذه الأحجار بحسب اعتقاده تأثير على الشخص الذي يحملها، فيقول مثلاً إن “الياقوت ينظم دقات القلب والزمرد مريح للنفس والجمشد يعالج أمراض الكلى”.

جولة في سوق “الدعافيس”

زبائن “أبو حسين” يصلون إلى بسطته بخطوات بطيئة جداً بسبب التدافع والزحام في سوق  “البالة” أو سوق “الهرج” كما يسميه البغداديون، وهو سوق يقع في منطقة “باب الشرجي” في بالقرب من ساحة الطيران. هناك، يضع الباعة مناضد حديدية أو خشبية متباينة الحجم يعرضون عليها مختلف البضائع المستعملة من ملابس ومقتنيات وأجهزة الكترونية وتحف وانتيكات وأحجار كريمة، حتى أن هناك من يسميه بسوق “الدعافيس” لكثرة الأشياء فيه مما يجعلك تنبش بين الأغراض لتجد ماتريده.

غير بعيد عن بسطة “أبو حسين” يتخذ بعض باعة الأحجار الكريمة ركناً مميزاً في السوق مقراً لهم، يتبادلون الأحاديث أحياناً والزبائن أحياناً أخرى، فهناك من يأتي بحثاً عن حجر معيّن سمع أنه يقضي له حاجته ويحقق له مبتغاه، فيبدأ رحلة التنقل بين بائع وآخر للوصول إلى مراده. 

أحد الزبائن كان يسأل البائع عن حجر يهدئ من أعصابه قائلاً: “أريد حجر شوية يصفي البال ويهدّي الواحد لان آني كلّش عصبي”. 

نهض البائع ملبياً طلبه فقال إن لديه حجر يسمى بالـ “جزع” يريح النفس والأعصاب ويخلص الإنسان من حالة التوتر وطلب من الرجل العصبي مبلغ خمسة وثلاثين ألف دينار ثمناً له، دفعها الأخير عن طيب خاطر.

كنت اتمشى باحثاً عن باعة الأحجار الكريمة فوجدت شخصاً يقف عنده اثنان من الزبائن يوحي شكلهما وملابسهما أنهما من السلك العسكري. كان يتحدث معهما عن حجر لن يجداه بالسعر الذي أعطاه لهما في مكان آخر قائلاً: “هذا الحجر متلكَاه بمليون دينار غير مكان”، فرَد عليه أحدهما يالقول: “هذا لو بمليون جان مابقيت كَاعد هنا”.

اقتربت منه وسألته عن نوع الحجر الذي كان يتحدث عنه للجنديّين والذي قد باعه لهما بسعر قليل جداً مقارنة بالمبلغ الذي ذكره، فقال: “هذا الحجر خارق وله قدرات كثيرة. هو حجر مجرب يعمل على قضاء الحاجات وتسهيل الامور”، وأسماه بـ “الجزع السليماني” فاتحاً لي باباً على الكثير من المواضيع الغامضة التي لم أكن أعرف عنها شيئاً في عالم تجارة الأحجار الكريمة.

سَحَرة وبصّارين وعرّافين

الرجل الذي رفض نشر اسمه فاتفقت معه على أن أسميه “الكاشف” لأنه كشف لي الكثير من المعلومات الغامضة، والذي قبل أن أصوره فقط من الخلف دون أن أظهر ملامح وجهه، ذكر لي أن هناك أحجار تستعمل في السحر يستخدمها من أسماهم “الروزخونية ” لأغراض مختلفة مثل “جلب الحبيب وعقد الرجل وجذب الحظ وفك العقدة”. 

و”الروزخون” كلمة فارسية الأصل تدل على رجال دين من الدرجة المتدنية ذوي تعليم متواضع أو لا يحملون شهادات دراسية، وواصل “الكاشف” حديثه عنهم بأنهم يستعملون حجر يسمى “الهبهاب”، وهو “حجر خطير بسبب احتوائه على مادة اليورانيوم، ونجس كذلك لان الشيطان يسكنه” على حد قوله. 

ويشارك العم “أبو حسين” هذا البائع الاعتقاد بخصوص حجر الهبهاب قائلاً “إنه حجر سيء يسكنه الجن والشياطين ويستخدمه السحرة والمشعوذين في اعمالهم الى جانب عظم الهدهد أو الطلاسم النحاسية”.

وأضاف أن “هذا الحجر لا يحمل باليد مباشرة، إنما يوضع في منديل أو يصاغ داخل قلادة نحاسية تلبس في الرقبة”، مشيراً إلى أن هناك حجر عكسه يستخدم ضد السحر أسماه “عباس آباد” وهو “أسود اللون منقوش عليه آيات قرآنية”، على حد وصفه.

“الكاشف” الذي بدا ناقماً على السحرة والمشعوذين قال إن “السحر والعمل بالاحجار لا ينفرد به الروزخونية فقط، فهناك اشخاص يتواجدون في مكاتب عقود الزواج وهم عبارة عن سماسرة لأشخاص يسمون بـ الفتاح فالية”.

وبحسب هذا البائع “يتواجد هؤلاء السماسرة في مكاتب الزواج من أجل كسب الزبائن في أعمال جلب الحبيب وأعمال عقد الرجل” الذي وصفه بأنه عبارة عن “عمل يجعل الرجل كالخاتم بيد المرأة”، مشيراً إلى أن هؤلاء الأشخاص الذين يسمون بالـ فتاح فالية ينشطون في الخفاء في بيوت صغيرة أو محلات داخل الأزقة الضيقة.

و”الفتاح فال” هي تسمية قديمة تطلق على من يزعمون أنهم قادرين على الاستبصار عن طريق القراءة في الأحجار الكريمة وكتابة الطلاسم واستخدام البخور وماء الورد، وهم عبارة عن عرّافين يتظاهرون بمعرفة الماضي والحاضر والمستقبل ولهم تسميات عديدة مثل “البصّار” و “النجومي” ويستدرجون النساء غير المتعلمات خاصة بحجة عمل الطلاسم والأحراز وأعمال كثيرة حسب الطلب.

أحجار أصلها نباتات

في مدينة الكاظمية وفي شارع باب القبلة تحديداً يضع العم “علي أبو تمار” صناديق خضارٍ الفارغة في صفين وفوقهما لوحان من الخشب عليهما عدد من الأحجار الكريمة، يكسب من بيعها قوتَ يومه. 

 الرجل الخمسيني الذي لا يعرف سنة مولده بالتحديد لا يمتلك أية مهنة أخرى، فيقضي معظم أوقاته في بيع الأحجار وهو على هذا الحال منذ عقدين من الزمن، لا يؤنسه في السوق سوى صديقٍ له يقف بالقرب منه أمام عربة يبيع فيها مختلف أنواع الخضروات، ويمتلك هو الآخر معلومات كثيرة عن الأحجار الكريمة. 

عندما سألت العم “أبو تمار” عن الأحجار وأنواعها ذكر لي الكثير منها كالعقيق والعطف والسليماني والداودي والخراساني، لكنه أعطاني معلومة فسرت لي سبب إقبال معظم الزبائن على اقتناء حجر العقيق اليماني وسبب مكانته الكبيرة بين الاحجار، قائلاً إنه “أول حجر سجد لله تعالى وذلك هو سبب كرامته الذي يتكلم عنها باعة الاحجار”، بحسب اعتقاده.

ويشير العم “أبو تمار” إلى أن هناك أحجاراً أصلها نباتات كذلك مثل حجر “الكهرب” وهو عبارة عن نبات يوجد في البحر وحجر “اليسر” وحجر “النارجين”.

وبالرغم من أن بيع الأحجار الكريمة مهنة تبدو غريبة لكثيرين وتحتوي على الكثير من الغش والخداع وتتداخل معها من ناحية أخرى أعمال السحر والدجل والشعوذة، لكنها في نفس الوقت مهنة فريدة تتصل بالثقافة الشعبية والاعتقادات السائدة منذ قرون من الزمان، كما أن هناك باعة بسطاء كالعم “أبو حسين”  يعيشون منها نظراً لعدم تطلبها طاقة جسدية كبيرة أو رأس مال ضخم. 

الباعة كما أوضحوا في مقابلاتنا معهم يحصلون على الأحجار بطريقة هي الأخرى تبدو غريبة، إذ إنهم يشترونها من المورّدين بأكياس كبيرة تحتوي على عدد هائل من الأحجار وبأسعار يجري تقديرها بالجملة، غير مكترثين لما فيها من أنواع أو أشكال، ثم يفرزونها حسب نوعها وسعرها وقيمتها ويبيعونها في السوق.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى