طفلٌ يجرّ ثروة البلاد في عربته.. ولم ينل منها شيئاً
بغداد- مصطفى محمد
مع إشراقة كل صباح وحين يتوجه الطلبة إلى مدارسهم والموظفون إلى أعمالهم، يخرج مقتدى علي ذو الثلاثة عشر عاماً للعمل في محطة الوقود، حاملاً هموم عائلته فوق أكتافه، وبين يديه عربة يجر فيها جالونات النفط في إحدى محطات الوقود في العاصمة بغداد.
لطالما شاهد مقتدى بينما يعمل، أطفالاً بعمره في طريقهم إلى المدرسة، يرتدون أجود أنواع الملابس ويحملون حقائب ملوّنة على ظهورهم قاصدين تحقيق احلامهم وطموحاتهم، بينما أولاد آخرون ينتشرون في أسواق بغداد المزدحمة بأجسادٍ هزيلة ووجوهٍ متعبة، يقاسون ظروف العمل الشاق وهم في أوّل العمر.
يصف مقتدى بداية يومه قائلاً: “توقظني أمي باكراً وتحضر لي كأساً من الشاي ورغيفاً من الخبز لأتناول الفطور، ثم أذهب الى العمل لأجني بعضاً من المال أعيل فيه أسرتي”.
مقتدى الذي يسكن مع والدته وأشقائه في منزل مستأجر في منطقة الشيشلان شرقي العاصمة بغداد ترك المدرسة منذ بدايتها واتجه لميدان العمل مكرهاً، فهو المعيل الوحيد لعائلته الصغيرة.
يتابع كلامه بينما ترتسم على شقتيه ابتسامة يصعب تفسيرها: “وعيت على العمل منذ الأشهر الأولى من دخولي المدرسة، واضررت لاحقاً إلى أن ترك الدراسة نهائياً”. ويكمل: “تركنا أبي صغاراً ولا نعرف عنه شيئاً.. عليّ أن أعمل لساعات كثيرة لأدفع تكاليف الايجار ومصاريف المنزل”.
مقتدى ليس إلا واحد من آلاف الأطفال المتسربين من التعليم في مراحل مبكرة في هذا البلد الغني بالنفط، فبحسب منظمة اليونيسيف ورغم زيادة معدل التحاق الأطفال بالتعليم الابتدائي عند مستوى 92%، فإنّ إكمال المرحلة الابتدائية بين أطفال الأسر الفقيرة لا تتجاوز نسبته الـ 54%.
وفقًا لليونيسيف أيضًا، فإنّ ثلث أطفال العراق يمرون بظروف اقتصادية صعبة تضعهم أمام متطلبات العمل لإعانة عائلاتهم، إذ توضح المنظمة أنّ “أطفال العراق يواجهون أعلى زيادة في معدلات الفقر، وهناك طفلان فقيران بين كل 5 أطفال”.
في إحدى محطات النفط في العاصمة بغداد، يقوم مقتدى بدفع عربة من الحديد والخشب محملاً بها جالونات النفط للاشخاص الذين يأتون الى المحطة لغرض لشرائها.
“أعمل هنا منذ ثلاث سنوات، أقوم بتحميل الخزانات من داخل المحطة إلى خارجها بمبلغ لا يتجاوز 500 دينار عراقي (حوالي 30 سنتيم أمريكي)”.
يضيف وعلى وجهه علامات الرضا: “في بعض الأحيان يكون العمل صعباً بسبب ثقل حمولة العربة” مع أن بنتيه الجمسانية لا توحي بأنه قادر على تحريك هذه العربة متراً واحداً إلى الأمام.
لم تقدم الدولة العراقية أي مساعدات لتحسين وضع أسرة مقتدى وانتشاله من طفولته البائسة. “لقد ناشدنا المسؤولين لتلقي إعانة شهرية، لكن والدي ليس شهيداً في الحرب ووالدتي ليست أرملة.. الحكومة تعتبر أن والدي على قيد الحياة وترفع المسؤولية عن نفسها.. جميعهم يقولون كلاماُ كثيراً لكن كلامهم بلا أفعال”.
ورغم الابتسامة التي بالكاد نفارق وجه مقتدى الشاحب إلا أنه يعي جيداً حقوقه المسلوبة كطفل عاملٍ يعيش في العراق. “لم أنل من حقوقي شيئاًُ.. في الدول الأخرى تقدم كافة الحقوق للأطفال.. يلعبون ويتعلمون ويمتلكون الطعام ولا يسمح لهم بممارسة الأعمال الشاقة، أما انا وكثير من أقراني هنا، فلم نعش طوال حياتنا في نعيم، ولم نفرح مثلما يفرح الآخرون”.
تشير معظم الأرقام والمؤشرات إلى واقع مرير يعيشه الطفل العراقي وتفتقد البلاد إلى سياسة وطنية لحماية الأطفال من العنف والاستغلال وسوء المعاملة. أما من الناحية القانونية، فلحدّ هذه اللحظة لا يوجد قانون خاص لحمايتهم ولا يبدو أن المشرعين يضعون الأمر نصب أعينهم.
يقول مقتدى واصفاً حاله “أعاني الكثير من الضغوط والمشكلات في حياتي. ولدت ولم أكن قادراً على أن أتمنى شيئاً أو أطمح لشيء مثلما يفعل الآخرون. لقد تعبت كثيراً من مشقة العمل وأريد أن أعود إلى مقاعد المدرسة وأن أحظى بشهادة أفتخر بها أمام الجميع”.
حيدر وليد (15 عام) يعمل مع مقتدى بمحطة الوقود نفسها، وقد نشأت بينهما علاقة صداقة تبدو متينة. هو أيضاً المعيل الوحيد لاسرته بعد أن انقطع عن دراسته.
حين تنتصف الشمس في رابعة السماء، يجلس مقتدى وحيدر القادمان من المنطقة نفسها يأكلان وجبة فلافل خفيفة، سعرها 500 دينار، ومعهما قنينة ماء، هي غدائهم اليومي إلى حين العودة إلى المنزل.
يشارك حيدر صديقه الهواجس بخصوص التعب والحرمان. يخجل أن يمدح نفسه أو يقارن وضعه بطفل آخر، فيتجه للحديث عن مقتدى لا عن نفسه: “مقتدى ذكي ولطيف ونقي القلب، ولو تسنى له فرصة التعلم، سيكون له مستقبل هام”.
أسمع كلام حيدر وأشعر أن هذه الكلمات تنطبق على كل طفل في محطات وقود أو على نواصي الشوارع ممن يجرّون العربات الثقيلة أو يحملون بأيديهم حقائب وبضائع المتسوقين أو يبيعون خلف البسطات، فالآلاف منهم يهيمون على وجوههم هنا من الصباح للمساء للحصول على مبالغ لا تتجاوز بضعة دولارات، كما أن معظمهم لم يدخل المدرسة ولا يعرف القراءة والكتابة.
يقول ياسر الدراجي أحد موظفي المحطة، إن مقتدى وأقرانه “يعيشون مأساة حقيقية، معظهم ليس لديه أب أو أقارب يهتمون به ومالكي عربات الوقود يحاصصونهم على رزقهم”، مشيراً إلى أن العربات المنتشرة حول المحطة لا يملها هؤلاء الأطفال بل يستأجرونها مما يقلل من فرص تحقيقهم أرباحاً آخر النهار.
ملاك حميد، وهي إعلامية وناشطة في مجال حقوق الطفل تقول للمنصة: “للأسف أصبحت ظاهرة عمالة الأطفال تجاره مربحه لبعض الاشخاص في كل ركن من بغداد والمحافظات الأخرى.. وهناك عوائل ترسل أطفالها للشارع استغلالاً لعواطف الناس كي يجلبون لها المال ومنهم من يتعرض للعنف أو الابتزاز”.
وتبين تقارير منظمة اليونسيف أن حوالي 90 بالمئة من الاطفال يتعرضون لشكل من أشكال العنف سواء في المنزل او خارجه، وأن عشرة بالمئة منهم فقط نالوا فرصة المشاركة في برامج التعليم المبكرة كرياض الأطفال.
وبحسب بيانات وزارة التخطيط فقد شكلت نسبة فئة صغار السن بعمر (تحت سن الـ 14 سنة) تشكل أكثر من 40 في المئة من مجموع السكان البالغ عددهم أكثر من 40 مليون نسمة. وعلى الرغم من مصادقة العراق على اتفاقية حقوق الطفل في القانون رقم خمسة لعام 1994، إلا أن قانون حماية الطفل لم يشرّع حتى الآن.
لهذه الأسباب تطالب الناشطة الحقوقية ومعها حقوقيون كثر بضرورة الإسراع بسن القانون، قائلة: “يجب ان تسن الحكومة تشريعات تكفل حقوق الطفل بحيث يتوفر له مكان صالح للعيش مع عائلته وكذلك الغذاء المناسب والتعليم المجاني، ويجب أن تخصص الحكومة مراكز تنمية للأطفال ذوي الظروف الصعبة حتى بلوغهم السن القانوني”.
مع حلول المساء يعود الصبي مقتدى إلى منزله حاملاً في جيبه بضعة آلاف من الدنانير، ربما لا تتجاوز العشرة دولارات، وهو ما يكفي مجموعه الشهري بالكاد لدفع إيجار المنزل.
“أعود منهكاً من التعب مرتجفاً من برودة الاجواء.. تستقبلني والدتي التي تحضر لي الملابس كي أستحم ومن بعدها أتناول العشاء وأركض سريعاً إلى الفراش لأنام حتى أستعد لليوم التالي”.