آخر الخفافين في كربلاء
كربلاء – حسنين علاء
في ورشة معتمة يتسرب الضوء من بوابتها الضيقة يجلس العم علي حدّاد خلف طاولته ويهمّ بقص قطع من الجلد ورسم موديلات مختلفة للمداسات والأحذية وهو يتكلم مع صديقه الذي أهداه كيساً من خبز الشعير.
يقول لصديقه: “هناك زبون أتعبني حذاؤه فمقاسه كبير جداً وأراد مني أن أصنع له كعباً طبياً”، ثم ينهي عبارته ضاحكاً وعيونه خلف نظارته تغلق كلما كهكه قليلاً، ليشاركه صديقه الضحك.
هذا الإسكافي المعروف في في كربلاء بإسم “أبو أمير”، هو أقدم الحرفيين المختصين بصنع الأحذية في المدينة، وهو يفتخر بذلك ويقول “أنا علي حداد أقدم خفاف في كربلاء وأحسنهم”، مع ضحكة طويلة بعد تلك الجملة.
في سوق ابن الحمزة في طرف باب الخان يالقرب من ورش لتصليح المدافئ الشتوية ومضخات المياه يقع محل “أبو أمير” الذي يفتحه عادةّ في الساعة السابعة صباحاً من كل يوم ويغلقه في الواحدة ضهراً ليكمل يومه بعد ذلك في البيت مع عائلته.
وبالرغم من قصر مدة دوامه اليومي إلا زبائن السوق يعرفونه أكثر من أي شخص آخر، فقد اعتاد طوال ستة عقود على تصدير منتجاته إلى المحافظات المختلفة وعلى استقبال زبائن من مناطق عديدة من العراق، أبرز ما ينتجه هو المداسات التي تسمّى بالعراقية الدارجة “الشحاطات” لأنها “تشحط بالأرض” أثناء السير.
يتحدث أبو أمير عن مهنته بحبّ واضح، فقد تمسك بها رغم ضعف رواجها بين الناس وتراجع إقبال الزبائن عليها في العقدين الماضيين.
بيده الخشنة يمسك أبو أمير حذاءً كان قد جلبه أحد الزبائن للتصليح، يتفحصه بدقة ويبدأ بإصلاحه محاولاً أن يعيده أفضل مما كان. يقول: “مهنتي تعتمد على الدقة والأناقة ورأسمالها هو السمعة الحسنة”.
تعود مهنة الإسكافي إلى زمن بعيد إذ كانت تنتشر بكثرة في مدينة كربلاء بالقرب من مرقد الإمام الحسين في بين الحرمين، وكانت على شكل معامل وورش مختلفة تختص بالصناعة والتصليح والخياطة والبيع في آن واحد. وقد تركزت تلك المحلات قديماً في شارع صاحب الزمان على شكل “قيصريات” أو خانات.
والقيصرية هي مجمع من المحلات مبنية على طابق أرضي واحد، أشهرها كان يسمى بسوق “الخفافين” أو “النعلجية “بجانب شارع الإمام علي الذي اختفت ملامحه قبل بضعة أشهر بسبب أعمال التوسعة بالرغم من قيمته التراثية.
عندما كان في الثانية عشرة من عمره عمل “أبو أمير” في إحدى الورش في شارع العباس في مدينة كربلاء، فتعلم أصول الحرفة إلى أن أصبح متمرساً. “وبعد وفاة أبي ذهبت إلى محافظة بغداد لأعمل في معمل شهير في سوق الشورجة وكنت أحصل على أجر عالٍ مقارنة بما كنت أجني في كربلاء”، يستذكر تلك الأيام.
سنوات عمله في العاصمة مكنته من جمع مبلغ من المال افتتح به معمله الخاص في كربلاء ليشغّل معه عدداً من العاملين يديرهم هو، فكانت أوقات يصفها بـ “الهانئة” لم يعكّر صفوها سوى قضاؤه ست سنوات خلف القضبان في سجون نظام صدام حسين.
وبالرغم من مساوئ تلك الفترة على الصعيد السياسي، لكنه يقول: “مهنتنا كانت غنية جداً سابقاً حتى عام 2003 عندما كثر الاستيراد فامتلأت الأسواق بالكثير من الموديلات رغم رداءة صنعها”.
المراقب لهذا الإسكافي أثناء عمله يلاحظ أن الجانب الفني عنصر أساسي في الحرفة بدءاً من أولى مراحل صناعة الحذاء، إذ يرسم الحرفي تصميماً فوق ورق مقوى في موضع يسمى عند أصحاب الحرفة بالـ”إندازة”، ثم يقص الرسم بالمقص او بمشرط خاص.
ولاتمام صنع الحذاء يستخدم أبو أمير أنواع مختلفة من جلود الحيوانات أو الجلد الصناعي، وعبوات من الصمغ ومواد أخرى من المطاط يصنع منها الكعب والقاعدة السفلية للحذاء.
رغم تراجع المبيعات ما زال هناك زبائن أوفياء لهذا الرجل، منهم نسبة كبيرة من أصحاب الإعاقة في الأرجل أو القدم، “تحديداً من يعانون من قصر في أحد أرجلهم” يشرح أبو أمير.
ويتابع: “أصنع لهم أحذية خاصة تساعدهم على الاعتدال في الوقوف والمشي وأعتمد في ذلك على زيادة حجم الكعب وقاعدة الحذاء بعد قياس الارتفاع المطلوب بدقة”.
سيد علي الطالقاني الذي عمل في هذه الحرفة منذ كان عمره 12 عاماً كما هو الحال مع أبو أمير، يقول مازحاً إنه ربما يكون سن الـ 12 هو السن المناسب للبدء بتعلم هذه المهنة.
هو اليوم قادر على صنع مختلف الموديلات بما فيها تلك الشبيهة بالموديلات التجارية، لكنها بجودة عالية ومتانة اكبر. يقول “عندما أصنع حذاءً أعطي ضماناً للزبون لسنتين أو ثلاث سنوات وهذا تعبير عن متانة وجودة ما أصنع”.
معظم رفاق الطالقاني تركوا العمل وأغلقوا ورشهم، يوضح لنا، لك الرجل ذو الـ 32 عاماً تمسك بمهنته حتى فتح معمله الخاص بالقرب من بيته واضعاً فيه العديد من الآلات التي تعبّر عن مراحل صنع الحذاء.
فهو يبدأ رسم الشكل المطلوب على لوح منبسط وبعدها يقصه ويضع قطعة الجلد على ماكينة اسمها “آلة لويس” دنماركية الصنع لتنعيم الجلد، ثم تأتي مرحلة سحبها على القالب ولصقها، وفي النهاية كبسها بعد صنع القاعدة والكعب.
أصحاب الإعاقة في الرجل أو القدم هم أيضاً الأكثر إقبالاً على ورشة الطالقاني، فهو خبير في التعامل مع قصر الساق ويقوم بصنع أحذية خاصة لمن يعانون من تلك الاعاقة دون أن تبدو مختلفة عن الأحذية العادية.
كل ذلك يقوم به الطالقاني مساءً بعدما يعود من عمله الأول في “دوشمة الأريكات” الذي يتخذه عملاً أساسياً، عازياً ذلك إلى “ضعف السوق في الفترة الحالية وتفضيل معظم الشباب شراء أحذية جاهزة من الأسواق التجارية”.
“أبو سيف” إسكافي آخر صاحب باع طويل في هذه المهنة لكنه ترك العمل اليوم، تحدث عن سنينه الماضية قائلاً: “لقد بدأت عملي في ورشة صغيرة وكنت انقل المواد وارتب الاشياء واراقب الحرفيين حتى تعلمت واعطوني الفرصة لكي أصنع أول حذاء لي”.
هذا الرجل الأنيق هو صديق العم “أبو أمير” وزميله في المهنة لكنه توقف عن العمل الآن وأخذ يشتغل في المقاولة وإصلاح الدور القديمة عازياً ذلك إلى ضعف إيراداتها.
ابو سيف لديه ذكريات كثيرة منها تلك الأيام التي كان يشتغل فيها في خان “شيخ شريعة” وينتج الكثير من الموديلات والأشكال وينافس زملائه الذين كانوا يحاولون إنتاج الاحذية بمهارته وجودة صنعه.
“أبو العكَرب” و”النجفي” و”أبو الزعانف” و”الفنهاوتن الانجليزي” هي أغلب الموديلات التي يصنعها سيد علي الطالقاني وبقية الإسكافيين، وهو يمتلك ما يقارب الخمسين قالباً لتصاميم الأحذية والمداسات بالإضافة إلى قدرته على صنع أي موديل آخر يرى صورته فحسب.
وهناك شيء غريب أيضاً فهو يستطيع تكبير أي حذاء عن طريق نقعه بالماء الدافئ ووضعه بمكينة خاصة لمدة يومين بعد اختيار القياس المطلوب.
يستغرق علي الطالقاني في صناعة الحذاء الواحد يومين إلى ثلاثة أيام وذلك حرصاً على دقة ومتانة المنتج الذي يبيعه كما العم علي حداد ومابين الاثنين شبه كبير في الكثير من الأشياء.
فهما يحبان حرفتهما ويتمسكان بها رغم ضعف السوق، مع فخر كبير بالمهارة التي يمتلكانها، وعزمٍ على إبقاء هذه المهنة حية في أسواق كربلاء.