“المدلكجية” مهنة نهايتها العمى أو بتر الأطراف
بغداد- حيدر حاتم
في حمام شعبي قديم وسط العاصمة بغداد يجلس “أبو محاسن” في مكان استراحة الزبائن ينظر إليهم بعين ذابلة بفعل حرارة المكان العالية والبخار المتصاعد من كافة الأرجاء.
“أبو محاسن” أو “أحمد أبو سن الذهب” كما يلقبه أصدقاؤه المقربون، أحد “المدلّكجية” المتمسكين بكل ما هو قديم وتراثي سواء من حيث المهنة التي اختار العمل بها أو للهجته التي تذكر بلهجة المعّمرين من أهل بغداد، إذ لم يطرأ عليها أي تغيير رغم سنوات عمله الطويلة التي اختلط فيها بالعديد من الزبائن.
أما العاملون هنا في الحمام فيطلقون عليه تسمية “شيخ الدلاكين” لما لديه من خبرة مديدة تجاوزت الخمسين عاماً جاب فيها معظم حمامات بغداد ليصبح “شيخ الدلاكين” ودليلً على وجودهم الذي استمر لمئات السنين وبدأ بالاندثار في الوقت الحاضر.
ليست للاستحمام فقط
بعد عودته من تناول وجبة غدائه، يدخل “أبو محاسن” إلى “حمام العقيل” الواقع بين أزقة منطقة الصدرية وسط بغداد فيرحب به جميع العاملين في الحمام وكأنه الأب الروحي لهم، يقدم له أحد العاملين كأساً من الشاي، بينما يتحرك هو جيئة وذهاباً مرحباً بالمتواجدين ومطمئناً على أحوالهم.
بخلاف الكثير من الحمّامات التي تعمل اليوم بالطاقة الكهربائية، لا يزال حمام “العقيل” الذي يديره “أبو محاسن” يعمل بنفس الطريقة القديمة التي كان عليها حال حمامات السوق قبل نصف قرن من الزمن وذلك بتوليد البخار عن طريق تسخين الماء بمكائن تعمل بالنفط الأسود.
وعندما تجلس مع العم “أبو محاسن” في حمامه يمكنك أن تتخيل كيف كانت أجواء سبعينيات القرن الماضي من خلال طريقة كلامه ونبرة الصوت المرتفعة ونوعية الأحاديث التي يرويها.
ورغم اقتراب عمره من السبعين عاماً إلا أنه يبدو أصغر عمراً، ويعلق على ذلك ضاحكاً: “عليّ أن أحتفظ بمظهري الأنيق وصحتي الممتازة، فأنا واجهة الحمام والزبائن تهمهم المظاهر”.
بالنسبة لمحبي الإطلاع على التقاليد القديمة التي بدأت بالاندثار يمثل “أبو سن الذهب” دليلاً للدلاكين”، يطلعك على تاريخ الحمامات في المنطقة، وعلى التحولات التي طرأت على هذه المهنة خلال العقود الماضية وصولاً إلى الألفية الجديدة عندما قل عدد الزبائن وتناقص عدد “المدلكجية” بشكل ملحوظ، أو كما يعبر هو قائلاً: “لقد دخلت التكنولوجيا الحديثة فصنعت شرخاً بين الناس وتقاليدهم المتوارثة”.
وتعد مهنة “الدلاكة” هي من المهن التي يتعلمها الأبناء من الآباء، ويؤكد “أبو محاسن” ذلك بالقول: “كانت عائلتي جميعها تعمل في الحمامات ومهنة التدليك، حتى النساء في عائلتي يعملن في حمامات للنساء”.
ويروي أن مهمّته عندما كان صبياً في الثالثة عشر من عمره كانت تقتصر على ترتيب حاجيات الزبائن وتنظيف الأرضيات، إلا أن الصدفة قادته للدخول في مجال الدلاكة. يقول: “في إحدى الأيام التي كان يغص فيها الحمام بالزبائن تعرض أحد الدلاكين للإصابة فلم يكن لدى صاحب الحمام حل إلا انا، فصرخ علي قائلاً: ابني ادخل إلى غرفة الدلاكين وساعدهم.. وهكذا دخلت هذا المجال”.
اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن من العمل يعتبر “أبو محاسن” أن الحمامات ليست مكاناً للاستحمام فقط، فهي مكان اجتماعي يلتقي فيه الناس وينظمون الأمسيات، كما أن زبائن كثر يقصدونها للتشافي والعلاج. ويردف متفاخراً أن بمقدروه رغم تقدمه في السنّ حلّ مشكلات الجسم وبالأخص العظام والفقرات، و”أيضاً طقطقة أي مكان في جسم الزبون”.
إصابات عمل
عبدلله ابو حسين والبالغ من العمر سبعون عاماً يعمل في حمام “الكولات” في منطقة النهضة في بغداد، قضى معظم عمره في مساعدة الناس على الاسترخاء عن طريق إجراء المساج لهم.
يقول “بسبب الأجواء الباردة في فصل الشتاء يزيد إقبال الناس على الحمامات، وذلك لوجود الصبات الحرارية، وهي أماكن ساخنة يجلس عليها الزبائن لتمدهم بالدفء أما في الصيف فيقل بشكل ملحوظ”.
ويذكر أبو حسين قصة حدثت مع والده الذي كان يعمل في حمام “الجمهوري” في منطقة الفضل فيقول نقلاً عن والده: “كان هناك شخص يعاني من آلام في ظهره، ذهب إلى الطبيب فكانت وصفته العلاجية هي ذهابه الى الحمامات العامة والاستلقاء على “الدجه” وعمل مساج على يد أحد الدلاكين، فعمل كما قال له الطبيب وعافى من ٱلمه”. و“الدجه” هي مقعد حجري في غرفة البخار غالباً ما يكون في المنتصف ويكون مركزاً للحرارة في الغرفة، يستلقي عليه الزبائن، وبفضله لازال الناس يأتون إلى الحمامات.
ورغم أجواء الاسترخاء والمرح الطاغية على حمامات بغداد القديمة، لا تخلو مهنة المدلّك من احتمال حدوث إصابات خطيرة، فيوضح العم “أبو محاسن” صاحب حمام “العقيل” أن “الدلاكين والعاملين هنا قد يصابون بفقدان البصر بفعل الحرارة العالية والبخار، وكلاهما يسبب الجفاف ويفقد الجسم الأملاح وبالنهاية قد يقود إلى العمى، وربما يفقد الدلّاك أيضاً إحدى أطرافه لما قد يسببه تدليك الجسم والماء الحار من آثار على الأعصاب التي تتلف، وخاصة في منطقة اليدين”.
نهاية سعيدة ليوم طويل
انتشرت الحمامات العامة في بغداد والعراق منذ زمن طويل، وكان لدى الدلاكين نقابة خاصة بهذه المهنة واقعة في ساحة الاندلس ينتظمون فيها وتحفظ سجلاتهم مع عناوينهم ليوزعوا بعد ذلك على الحمامات أيضاً لسد الحاجة والنقص في حمامات الأخرى باشتراك سنوي.
أما اليوم فلم يتبق منها سوى القليل المحافظ على طرازه القديم والمميز، فمعظمها تهدم أو راح ضحية الإهمال، لم يعد يزرها أحد واضطر أصحابها إلى غلقها وإيجاد عمل جديد لهم.
ويعبر “أبو محاسن” عن غضبه واستيائه من الأوضاع التي آلت إليها المهنة في الوقت الحاضر بسبب قلة الزبائن بالقول: “قديماً كان الزبائن يأتون منذ أولى ساعات الصباح وحتى ساعات متأخرة من الليل، وكان هناك دعم ونقابة للدلاكين لتنظيم عملنا وتوزيع العاطلين عن العمل منا على الحمامات، أما اليوم فكأننا نشهد نهاية المهنة”.
حامد السيد أحد الزبائن الدائمين في حمام “العقيل”، يقول أنه يمضي ساعات طويلة نهاية كل أسبوع في الحمامات العامة. “استحم جيداً وأخضع لجسلة مساج لدى الدلاكين لأريح نفسي من تعب الأسبوع”.
بينما كان هذا الزبون مستلقياً يستعد لجلسة التدليك، كان “أبو المحاسن” يجهز “كيس الدلاكة” الشبيه بليفة الحمام، يستعد لتمريرها على ظهر الزبون مراراً وتكراراً بعد سكب الماء الحار، ليزيل بقايا الجلد الميت والأوساخ والدهون التي يطلق عليها اسم “الفتايل”.
خرج حامد مسترخياً من الجلسة، سعيداً وكأنه “ولد من جديد” على حد وصفه، ليأتي بعده مع نهاية اليوم أحد الزبائن الدائمين صحبة مجموعة من أصدقائه.
سرعان ما بدأوا بخلع ثيابهم ودخلوا غرفة البخار وبعضهم ذهب إلى غرفة الدلاكين، لتظهر ابتسامة عريضة على وجه “أبو سن الذهب”، فعلى ما يبدو اليوم ليس كباقي الأيام، وجيب “أبو محاسن” سوف يمتلئ أخيراً بالنقود.