“أثر الفراشة” يتجول في أحياء بغداد 

المنصة- مينا القيسي 

يصحو علي خليفة كل يوم من غفوته باكراً ويزيح ستارة النافذة لتدخل خيوط الشمس إلى زوايا البيت، يقبل وجنتي ابنته حوراء البالغة من العمر 11 عاماً ثم يلملم أغراضه ويخرج برفقة صديقه الحاج أبو سامر متجهين نحو حي الأنباريين بمدينة الكاظمية في بغداد.


يبدؤون يومهم ببضع أرغفة خبز ساخنة وبيض مسلوق وشاي مع أهالي الحي، يتبادلون معهم الضحك وبعضٍ من الذكريات فيما تحيط بهم من جميع الجهات جداريات بألوان زاهية ورموز بغدادية.

طوال سنوات ممارسته لفن “الجرافيتي” أو الرسم على الجدران ظل “علي” مخلصاً في حبه لمحلة الانباريين التي يعدها مركز انطلاقته الأولى في عمله التطوعي ضمن فريق “أثر الفراشة”، العمل الذي اتسع ليتعدى حدود الحي ويصل الى مناطق متعددة من العاصمة بغداد.


يقول الرسام علي خليفة، مؤسس الفريق إن “أثر الفراشة” يضم العشرات من الرسامين المتطوعين من كلا الجنسين ومن مختلف الأعمار، محترفين وغير محترفين، “نحن جميعاً دون استثناء عائلة واحدة جمعتنا الصداقة وحب العمل التطوعي ونهدف من خلاله إلى توظيف ما نملك من مواهب وإمكانيات لخدمة مدينتنا”.

سنة 2017 كانت هي البداية الفعلية لتكوين الفريق لكن الفكرة يتابع علي، “كانت موجودة في رأسي منذ سنة 2014 ولم أستطع تنفيذها آنذاك وحيداً. من بعد ذلك وجدت صديقي بجانبي الذي شجعني على البدءِ في تنفيذها، فبدأنا سوية ورسمنا إلى حد يومنا هذا أكثر من 1500 رسمة بمختلف المناطق”.

محلة الأنباريين في الكاظمية واحدة من أقدم الأحياء الشعبية في بغداد يعود تاريخ إنشائها إلى أكثر من تسعمائة عام وتضم بيوتات قديمة يتجاوز عمرها المئة عام، بعضها قد تهدّم نتيجة عامل الزمن وبعضها الآخر ما زال محافظا على مظهرهِ العتيق.

ويرجع سبب تسمية المحلة بالأنباريين إلى هجرة بعض من عشائر الأنبار في العصر العباسي ومجيئهم إلى بغداد من أجل الاستقرار فيها.

المتجول في أزقة هذه المنطقة يعثر على عشرات الجدرايات المرسومة عند الأرصفة والمحال التجارية والمدارس والأزقة نفذها فريق “أثر الفراشة”.

يقول علي: “كانت أول رسمة تطوعية لنا في المحلةِ من نصيب إحدى البيوتات القديمة التي تسكنها امرأة مع أطفالها اليتامى، قلت لها إنني سوف أزين لها واجهة بيتها برسمة تراثية تليق بالزقاق، فقالت لي: بكيفك أبني، أي شي يطلع منكم حلو، فرسمت وجه امرأة بغدادية بعينين كبيرتين، تضع فوق رأسها عباءة سوداء”.

تمتاز محلة الأنباريين عن غيرها بأنها حاضنة للعديد من الرسومات الجدارية التي تعكس وجه بغداد الحضاري والتاريخي، من خلال المعاني والرموز التي تحملها، المتمثلة بهيئة المرأة العراقية القديمة، والسدارة البغدادية، والسبع عيون، والشناشيل، والتراث الوطني، وأوجه العديد من الشخصيات الأدبية والثقافية والفنية أمثال عالم الاجتماع العراقي علي الوردي والشاعرين بدر شاكر السياب ومظفر النواب والممثل وكاتب السيناريو العراقي سليم البصري المعروف باسم “حجي راضي”.

ويهدف الفريق من هذه الرسومات إلى “تحسين الواقع العام ونشر السعادة و البهجة في المناطق التي يسودها اليأس” على حد وصفهم، كما أنهم يسعون دائما الى تنفيذ رسومات ذات رسائل توعوية وإرشادية بشكل مباشر أو غير مباشر، وعلى اساس ذلك فأن نشاطاتهم لا تقتصر فقط على الأزقة والدرابين، بل تشمل معها المدارس، والروضات، والمستشفيات، وأسيجة الشوارع العامة، و بعض جدران المؤسسات.

وفي هذا الشأن يقول خليفة: “عندما نرى حال بعض المدارس نحزن عليها، خاصة لو كانت لتلاميذ المرحلة الإبتدائية، إذ إنها خالية من أي مظاهر تدعو الى التفاؤل والإيجابية والمرح، انما على العكس تماماً، ما نجده هو فقط الخراب والخربشات العبثية على الجدران، الأمر الذي يدفعنا دائماً الى تقديم المساعدة لإضفاء الروح عليها، وهذا بالتأكيد من شأنه أن يعزز حب الطلبة لبيئتهم الدراسية”.

خلال السنوات القليلة الماضية  رفد فريق اثر الفراشة غالبية مدارس منطقة الكاظمية والأعظمية بالرسومات التي تعبر عن شخصية تلك المدارس على حد وصفهم، والحال نفسه مع بعض المراكز الصحية التي زينوها برسومات توعوية، بالأخص في الفترة التي شهدنا فيها جائحة كورونا، “فكان الفريق يتواجد دائما في أماكن قد يعتبرها البعض بؤرة المرض، لكنهم ضحوا في سبيل نشر الوعي الصحي من خلال فُرشهم والوانهم”، يبين علي.


كما يمكن العثور على رسومات أخرى للفريق وّزعت في أحياء أخرى من بغداد كمنطقة البنوك، وحي العدل، وحي الجامعة، والمنصور، وباب المعظم، والفضل، والعامرية، والإسكان، والكريعات.

صبا الحيالي، 27 عاماً، رسامة تشكيلية ومتطوعة ضمن الفريق، تقول: “كان انضمامي إلى الفريق عن طريق الصدفة عندما لمحت يوماً موقعهم الالكتروني على الإنترنت، ولانني رسامة قديمة سألت نفسي: هل الرسم على الورق يشبه الرسم على الجدران؟ وددت ان اكتشف ذلك بنفسي، فتطوعت معهم كي أعيش التجربة، فصارت واحدة من أجمل التجارب في حياتي”.


أما عن خلاصة ما تعلمته هذه الفنانة العراقية الشابة من هذه التجربة الفنية الاجتماعية فتقول: “تجربة التطوع أضافت لشخصيتي القوة والجرأة، وساعدتني في التعبير عن أفكاري، كما علمتني الكيفية التي أحوّل بها الضغوطات التي اعيشها إلى طاقة إبداعية متفجرة تتجسد في اللوحات التي أرسمها”.



وتضيف الحيالي: “استمد إيماني بموهبتي من أستاذي علي خليفة، فهو لا يتوقف عن تشجيعي والإشادة بجميع رسوماتي، حتى أنني تعلمت منه الدقة في الرسم، الأمر الذي جعلني حريصة على التطور أكثر كي اقدم شيئاً جميلاً لبغدادنا التي نحبها جميعا، ونحن نتطلع الى توسعة الفريق ليشمل بذلك بقية محافظات العراق”.

أما علي كريم، 35 عاماً، يقول: “أمتلك موهبة الرسم منذ أن كان عمري خمس سنوات، وأنا من أوائل المتطوعين في الفريق كون مؤسسه صديقي منذ الطفولة”.

ويميل علي كريم في رسوماته إلى  تصوير المناظر الطبيعية كالأشجار والشلالات، والأنهر والزهور على العكس تماماً من صديقه مؤسس الفريق الذي يفضل رسم الوجوه والبورتريهات.

ويضيف: “أجلس في نهاية كل يوم مع والدتي لأسرد لها بعضا من المواقف والنكات التي تحصل مع الفريق، لكنها لم تزر محلة الأنباريين أبداً، إنما شاهدت الرسومات التي فيها عن طريق الهاتف فقط”. ويعلق مبتسماً: “أشوفها للحجية صور الرسومات البغدادية بالمحلة، وتفرفح عليهن لأن عندها ذاكرة قوية ترجعها سنين ليوره”.


وحول تسمية الفريق بأثر الفراشة يقول علي خليفة “نسعى الى ترك أثر ايجابي في جميع الأشخاص الذين يصادفون أعمالنا، اما الفراشة، فكما يعرف الكثيرون إن تأثير حركة جناحيها قد يخلق عاصفة في مكان بعيد، وهذا ما نطمح اليه، أن نخلق بحركة الفرشاة عاصفة حب، وسلام، في كل مكان”.


وعلى ما يبدو، فإن لكلام علي ترجمة فعلية على الأرض، إذ ما أن تطأ قدماه الطابوقة الاولى لمحلة الأنباريين حتى تتهافت عليه مجموعة غفيرة من أطفال الحي الذين يلتفون حوله مبتهجين، ثم يأتي الأهالي من كل صوب يرحبون به  ويشكرونه على ما قدمه لهم من فسحة أمل وبصيص نور أعادت للمحلة بريقها الذي غاب عنها طويلاً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى