الساعة الآن.. بتوقيت شارع الرشيد
بغداد – مصطفى محمد
وراء واجهة زجاجية مكسوة بالغبار في في شارع الرشيد التراثي وسط بغداد تختبئ واحدة من أقدم ورش تصليح الساعات اليدوية في بغداد.
من خلف الزجاج، يمكن بصعوبة مشاهدة مئات الساعات من أزمنة مختلفة بألوان وتصاميم متنوعة، وضعت في كافة أرجاء المتجر دون ترتيب واضح.
لكن عند الدخول إلى المكان يتضح أن تلك الساعات تنتشر في كل مكان، داخل صناديق بلاستيكية على الأرض، وفي علب كرتونية على الرفوف، وداخل حقائب مختلفة، ما يجعل التنقل في المتجر الضيق مهمة صعبة.
محاطاً بالساعات من الجهات الأربع يجلس يوسف أمين البالغ من العمر 52 عاماً والمعروف بأبو يحيى على كرسيه أمام مكتب خشبي قديم ورث أبو يحيى مهنته عن أبيه الذي ورثها بدوره عن جده، وبذلك فإن الورشة مستمرة في العمل منذ عام 1940، لم تتركها أسرة أبي يحيى حتى في أسوأ الظروف.
وبالرغم من التغيرات التي مرت على شارع الرشيد العريق الذي كان يحتوي على عشرات الورش المختصة بتصليح الساعات والتي لم يعد أكثرها موجوداً اليوم، إلا أن يوسف أمين يواظب على فتح محله يومياً دون انقطاع.
يروي يوسف أن بدايته في تصليح الساعات كانت في سن الحادية عشرة بعد وفاة جده مؤسس الورشة فيقول “تعلمت المهنة من أبي على مدار اعوام قبل ان يترك والدي العمل وآخذ مكانه في الورشة”.
يؤكد أبو يحيى أن تكنولوجيا الساعات الرقمية لم تؤثر كثيراً على مدى إقبال الناس على ساعاته، بقدر ما أثرت التحولات العميقة التي شهدتها مدينة بغداد خلال العقدين الماضيين على الصعيدين الأمني والاقتصادي، رافضاً فكرة أن الساعات أصبحت شيئاً من الماضي، ودليله على ذلك استمرار تدفق الزبائن على المحل، مشيراً إلى أن “الأناقة تبدأ من الساعة”.
يزور محل أبو يحيى أشخاص من أعمار مختلفة من الباحثين عن الساعات الأصلية لشرائها وآخرين لاقتناء الساعات الثمينة “ومن بينهم وزراء ومسؤولين” على حد قوله.
ويرجع أبو يحيى كثرة زبائنه الى الثقة التي بناها طوال الزمن، ويرى أن ديكور محله الذي لم يتغير منذ 50 عاماً يشكل عنصر جذب لزبائنه، ويؤكد على عدم نيته تغييره “حفاظاً على هوية المكان”.
يمكن العثور في محل يوسف على الكثير من الساعات ذات الماركات المختلفة، منها الثمينة وأخرى زهيدة الثمن، موضحا أن “أسعار الساعات الرخيصة تتراوح بين 35 و50 ألف دينار أما الساعات الثمينة فتبدأ أسعارها من 150 ألفاً مع ضمان مدته خمس سنوات”.
وكان شارع الرشيد قبل عقود يحتوي على أكثر من 50 محلاً لبيع الساعات فكان وجهة للباحث عن ساعة يد مناسبة لذوقه، ويتذكر أبو يحيى أن “إثبات نفسك كبائع او مصلح ساعات في ذاك الوقت لم يكن أمراً سهلاً ومعظم زبائننا كانوا من العائلات البغدادية، أما اليوم فمجال المنافسة صار أضيق وزاد عدد الزبائن، ومعظمهم من طلبة الجامعات”.
ويضيف مصلح الساعات: “لدي زبائن دائمين وهم كثر جداً من سكان بغداد ولدي أيضاً زبائن من خارج العراق في أوروبا وأمريكا”.
ويعد يوسف أمين خبيراً بتصليح الساعات السويسرية، وهي بحسب وصفه “من أهم الساعات مقارنة بالساعات الأخرى” ويوضح أن إصلاحها ليس أمراً معقداً بسبب توفر قطع التبديل، إلا أنها باهظة الثمن.
أسعار هذه الساعات تتراوح بين 500-1000 دولار وأكثر، أما أسعار تصليحها فتتوقف على طبيعة العطل، فإن كان في الماكينة فيكون بحدود 75 الف دينار عراقي بحسب أبي يحيى.
ويصلح أبو يحيى نحو خمس ساعات يوميا من بينها ساعات أمريكية ويابانية وسويسرية، لكنه يقول إن نظره في تراجع، ويقدر أنه سيضطر للتقاعد خلال خمسة أعوام على الأكثر، مع أنه يريد مواصلة العمل أطول ما يمكن.
على الرغم من ذلك لا يبدو أن مستقبل المحل الأقدم في شارع الرشيد مهدد، إذ يعكف يوسف على تدريب ابنيه يحيى (24 عاماً) ومصطفى (16 عاماً) على أمل أن يخلفه أحدهما أو كلاهما وأن ينقلا هذا الإرث العائلي إلى أبنائهما.
ويبدو ولع أبو يحيى بمهنته واضحا في كلامه، لكنه يكشف أيضا عن تمسك بشارع الرشيد “المختلف عن بقية مناطق بغداد”.
وتأسس الشارع مطلع القرن العشرين ليكون إحدى أولى الجادات الحديثة في البلاد، وتغير اسمه أكثر من مرة ليستقر في الثلاثينيات على اسم “الرشيد” نسبة إلى الخليفة العباسي هارون الرشيد.
ويتحدث أبو يحيى مطولاً عن دور السينما والمسارح والمقاهي والمتاجر “التي كانت لا تغلق أبوابها ليلاً” وعن الزبون الذي باعه أبو يحيى ساعة في الثالثة فجراً.
يقول إنه كان يبيع ويصلح ما يصل إلى 500 ساعة كل أسبوع”في الثمانينيات، قبل أن تتراجع كثافة العمل في العقد التالي نتيجة العقوبات الاقتصادية التي فرضت على البلاد.
وعلى غرار بقية العراقيين عاش يوسف امين بحسب تعبيره “معاناة الصراع الطائفي” الذي بلغ ذروته بين عامي 2006 و2008، فكان وصوله إلى المحل وقتها يتطلب منه قطع خمسة كيلومترات سيراً على الأقدام نتيجة غلق الطرقات واضطراره لتغيير مكان سكنه، وأدى ذلك إلى تراجع عدد الزبائن بنحو 90 في المئة مع مغادرة كثيرين لبغداد لكنه حرص حينها على مواصلة فتح المتجر قدر الإمكان.
ويتابع أبو يحيى أن “معالم شارع الرشيد بدأت بالاختفاء تدريجياً وانتقل أغلب أصدقائي إلى خارج البلد أو نحو مناطق تجارية جديدة في العاصمة بعد أن باعوا محالهم التي تحول معظمها إلى تجارة زيوت وقطع غيار سيارات وأدوات كهربائية”.
أما الشقق ذات الطراز البغدادي العتيق المصفوفة فوق المتاجر والتي كانت تسكنها غالبية من اليهود مطلع القرن العشرين، فقد صار معظمها خاوياً ومتداعياً لغياب أعمال الترميم والصيانة.
يقول يوسف بحسرة “كنت أتمنى أن يصبح الوضع أفضل بعد سقوط النظام لكنه تغير للأسوأ”، ورغم ذلك يؤكد أبو يحيى: “سأبقى متمسكاً بمهنتي.. هنا في شارع الرشيد”.