في بغداد.. هواء لا يصلح للاستنشاق

فاطمة كريم -بغداد
كان صوت سعال سالم يستوقف كل من يمر أمامه، يفترش أحد الأرصفة ويتحدث فتخرج الكلمات من فمه وكأنه يلتقط انفاسه الأخيرة، يقول بصوت منخفض بعد أن انهك الهواء الملوث صدره “أشعر أني جالس داخل فرن مليء بالأدخنة”.
يعمل سالم محمد، الصبي ذو السابعة عشر عاماً، في تقاطع منطقة ساحة عدن في بغداد، يبيع قطعاً من “قماش البـازة” تستخدم في تنظيف الزجاج، يشتريها منه أصحاب السيارات.
بسبب طبيعة عمله يعاني سالم من أمراض عدة في الجهاز التنفسي، إذ يتواجد في أيام العطلة وأيام المساء عند هذه النقطة المزدحمة حيث يصعب استنشاق الهواء لشدة تلوثه، أما في أوقات الصباح فيذهب إلى المدرسة، بل إنه من الطلاب المجتهدين في الدراسة رغم وضعه الصحي الصعب.
ليـس سالم وحده من يعاني من مشكلة تلوث الهواء التي تسببها عوادم السيارات فهنالك أكثر من مليون شخص في بغداد وحدها يعانون من اختناقات وضيق في التنفس أو فشل في الجهاز التنفسي أو أمراض القلب كما صرح المتحدث الرسمي باسم وزارة الصحة د. سيف البدر.
يقول البدر إن “تلوث الهواء بسبب عوادم السيارات يعد من اكبر المشكلات التي نواجهها وهي السبب الرئيس في زيادة أعداد المصابين بأمراض تنفسية كما أنها أحد أسباب لظاهرة التغير المناخي”.
ويوضح البدر أن عملية احتراق البنزين أو الديزل ينتج عنها مركبات كيماوية وغازات هي الاخطر على الإنسان إذ تسبب أمراضاً في الدم والغدد اللمفاوية وأمراض التحسس والربو والفشل الرئوي.
يقول الصبي سالم أحد ضحايا هذه العوادم: “في كل مرة اخرج من المنزل لا أعلم أين سينتهي بي المطاف، في العمل أم في المركز الصحي”.
في مرات عدّة يتم نقل سالم إلى المستوصف بسبب نوبات اختناق حادة حصلت له وهو ذاهب إلى المدرسة، فيتم انعاشه على جهاز الأوكسجين.
وبحسب تقارير حكومية يتراجع مؤشر درجة الهواء في العراق بسبب انتشار الانبعاثات السامة، وبالعموم يعد تلوث الهواء مسؤولاً بنسبة 80% عن الوفيات التي سببها امراض الجهاز التنفسي.
ويحتل العراق المرتبة الثانية بأكثر دول العالم تلوثاً، فيما جاءت العاصمة بغداد بالمرتبة 13 من بين المدن العالمية خلال عام 2022، وذلك وفق مسح عالمي سنوي أجرته شركة سويسرية لتصنيع أجهزة تنقية الهواء. ويقيس IQAir مستويات جودة الهواء بناءً على تركيز الجسيمات المحمولة جواً التي تضر بالرئة، ويتم الاستشهاد بمسحها السنوي على نطاق واسع من قبل الباحثين والمنظمات البيئية.
كما تبيّن تقارير منظمة الصحة العالمية أن حوالي سبعة ملايين حالة وفاة حول العالم سببها المباشر عوادم السيارات التي تعد من الملوثات سريعة الانتشار التي لا يقتصر تأثيرها على منطقة محددة فحسب وانما يمتد الى مناطق مجاورة أو بعيدة.
في بغداد وحدها توجد اليوم عشرة محطات رصد لقياس نسبة الملوثات كما أوضح علي جابر مدير قسم الهوائيات في وزارة البيئة. “تقوم هذه المحطات برصد الملوثات في مناطق متفرقة تتركز بها نسبة تلوث عالية مثل الدورة الوزيرية و جادرية والكاظمية وغيرها” يتابع بدر.
وكان مجلس النواب العراقي قد صادق سنة 2012 على “نظام حماية الهواء المحيط من التلوث” وهو قانون يشجع على حماية النظام البيئي وينص على إجراء تقييم مستمر لجودة الهواء في البلاد.
رقية علي، إحدى ضحايا تلوث الهواء في منطقة الوزيرية في بغداد عاشت على حد وصفها طوال سنوات طفولتها وشبابها “في بيئة غيـر صحية”. تواجه رقية مشكلات صحية أبرزها الالتهابات في المجاري التنفسية والتهيج في العينين.
تقول “رغم التزامي المستمر بارتداء الكمامة لكنها غير كافية، فـعدد السيارات في شوارع بغداد أصبح لا يطاق ومعدل انتشار هذه الأدخنة والسموم أكبر… نحن نقتل أنفسنا بأنفسنا”.
وبحسب المصادر ترتفع تراكيز الملوثات في منطقة الوزيرية، وتحديداً في ساحة الأندلس التي تشهد كثافة مرورية لوجود الكثير من دوائر الحكومية والخدمية والمستشفيات.
وأفاد العميد زياد القيسي مدير قسم الإعلام في مديرية المرور العامة أن حوالي أربعة مليون مركبة تشمل السيارات وسيارات الحمل والدراجات النارية ومركبات “التك تك” تجوب شوارع العاصمة يومياً في حين أن بغداد مخصصة لاستيعاب 800 الف عربة فقط.
لا تتمثل المشكلة في عدد المركبات التي تصدر الانبعاثات السامة وحسب انما يتحدث خبراء ومختصون عن مشكلة أخرى تتعلق بنوعية الوقود المستخدم في هذه المركبات.
إذ يوجد اليوم ثلاثة انواع من منتجات البنزين تباع في المحطات هي البنزين العادي والمحسن والسوبر بحسب نسبة الأكتون به (العادي 65% والمحسن 95 % والسوبر أو عالي النقاوة 98%) ومعظم المركبات تعتمد على النوع الأقل جودة.
يقول حسين طالب مدير توزيع المنتجات النفطية إن هناك في بغداد 64 محطة بنزين حكومية و 145 أهلية موزعة على جانبي الكرخ والرصافة وهنالك حوالي 50 محطة قيد الاستكمال، لكن من بين هذه المحطات لا يوجد سوى اثنتان توفران البنزين السوبر عالي النقاوة هما محطة موسى ابن نصيـر في الرصافة ومحطة الرسالة في الكرخ.
ويضيف: “نعمل جاهدين على توفير بنزين عالي النقاوة بأسعار تنافسية علماً أن البنزين السوبر نستودره من الخارج بالعملة الصعبة”.
أضرار التلوث لا تقتصر على كبار السن فقط وانما الاطفال ايضاً لان معدل تنفس أسرع لديهم الاطفال (حوالي 60 نفس بالدقيقة مقارنة بحوالي 16 نفس بالدقيقة لدى البالغين) مما يزيد من سرعة وصول الغازات إلى الدم وبالتالي سرعة التسمم والاختناق.
“منزلي يُطل على الشارع لا استطيع حتى فتح نوافذي خوفاً على طفلي الذي يعاني من الربو المزمن”، تشرح أم يـسار معاناة ذي الأربع سنوات مع مشكلة التلوث في العاصمة.
تروي أم يسار أن الأدخنة المنبعثة من السيارات لا تغادر منزلها وتشكل طبقة سوداء على ألواح الزجاج والجدران، فتقول: “يمر طفلي بحالات اختناق مستمرة فأسرع به إلى المستشفى في كل مرة لانقاذه”.
أحد أخطر الغازات السامة التي تطلقها السيارات هو أحادي اوكسيد الكاربون بمعدل 5 آلاف متر مكعب في الساعة للسيارة الواحدة، يقول علي جابر مدير قسم الهوائيات في وزارة البيئة.
ويضيف جابر: “يجب علينا ان نعي على المخاطر التي تسببها عوادم السيارات وتأثيرها على صحتنا وايضاً ايجاد الحلول الممكنة التي تقلل من مشاكل التلوث”.
ويقترح جابر جملة من الحلول من بينها زيادة حملات التشجير ودعم مشروع الحزام الأخضر في محافظة بغداد وباقي المحافظات والتركيز على استخدام الطاقات النظيفة والمتجددة وتقليل الاعتماد على مصادر الطاقة التقليدية.
لكن الأهم من كل هذا هو تعزيز الوعي الاجتماعي بضرورة الاعتماد على وسائل النقل الجماعي الصديق للبيئة إذ إن نسبة تلوث عوادم السيارات تشكل قرابة 23% من نسبة التلوث العامة بحسب متحدث وزارة الصحة د. سيف البدر الذي أشار إلى أن جائحة كورونا قللت نسبة التلوث إلى الثلث في فترات الحظر، “وهذا يدل على ان بمقدورنا السيطرة على التلوث إذا ما اتبعنا الحلول الصحيحة وقللنا من استهلاك المواد الضارة للبيئة”.
قبل فترة بدأت وزارتا الصحة والبيئة في العراق بالعمل عن نظام جديد للفحص المتنقل لأضرار المركبات.
يقول العميد زياد القيسي مسؤول الإعلام في مديرية المرور العامة إن “القوانين تشمل غرامة مالية على اصحاب المركبات التي تطلق أدخنة فوق المعدل المسموح بسبب خلل في المركبة لم يتم معالجته”.
ويضيف القيسي: “توجد مركبات صديقة للبيئة دخلت إلى العراق تعمل على الكهرباء والطاقة الشمسية ويتم اعفائها من الجمارك دعماً للبيئة وتشجيعاً للناس على اقتنائها”.
ويشير خبراء بيئيون إلى حلول أخرى من بينها تشييد طرق حلقية حول المدن يسهم في تقليل اعداد المركبات الداخلة إليها، بالأخص في بغداد، وهي خطوة لو تم اتخاذها سوف تقلل من الازدحامات المرورية وانبعاثاتها السامة، كما يشيرون إلى ضرورة وضع سقف لأعداد المركبات بما يتناسب مع الطاقة الاستيعابية.
أما وزارة النفط فتعمل وفق تصريحات مسؤوليها على تصنيع وقود صديق للبيئة بنسبة نقاوة عالية وتوفيره في جميع البنزين خانات وطرحة بأسعار معقولة تشجيعاً على شرائه.
وإلى أن يتم تطبيق هذه الحلول يستمر سالم في بيع خرق التنظيف لأصحاب المركبات التي تسبب بإختناقه، يلف واحدة منها حول أنفه عدة لفات مانعاً الأدخنة من التسرب إلى رئتيه المريضتين.
وتستمر رقية في الاستيقاظ باكراً للذهاب إلى جامعتها واضعة كمامتها على انفها. تقول رقية: “أصبحت الكمامة جزءاً مني، لا يمكني الخروج من دونها” بينما تعلق زميلتها على كلامها مازحةً: “اعتدت على رؤيتها بالكمامة، فإن لم ترتديها لا يمكنني التعرف عليها”.