عندما تحلّ لعنة الجفاف على صيادي العراق
فاطمة كريـم _بغداد
يجلس عدنان حيدر مكتوف الايدي على شاطئ نهر دجلة متأملاً حال النهر بعد انخفاض منسوب المياه فيه، واضعاً أمامه شباك الصيد التي لم تلمس المياه خيوطها منذ أسابيع ولم تعلق بها سمكة واحدة.
يسكن عدنان ذو الخمسين عاماً في منطقة الشواكة في بغداد، تعلم فنون الصيد من والده وأمضى أكثر من نصف حياته يعيش من خيرات النهر، “كان ذلك عندما كانت مياه دجلة نظيفة لا تلوثها شائبة واسماكها وفيرة تكفي لاطعام الجميع”، يقول متذكرا تلك الأيام.
في السنوات العشر الاخيرة انخفض منسوب مياه دجلة بشكل ملحوظ، ما أثر على منطقة الأهوار التي جفت مساحات واسعة منها مثل هور العودة وهور الحويزة وبحيرة ساوة في السماوة جنوبي البلاد، كما تراجع مستوى المياه في بحيرة الحبانية في محافظة الانبار وارتفعت نسبة ملوحتها، فنفقت اعداد هائلة من الاسماك تقدر بالأطنان باتت تطوف هامدة فوق سطح النهر.
يقول عدنان “قبل عقد من الزمن كانت حصيلة الصيد تكفي لإعالتنا، لكن في السنوات الأخيرة قلت جداً نتيجة الجفاف الذي نمر به في كل صيف”.
ليس قلة المياه وحدها السبب وراء تناقص اعداد الاسماك بل الملوثات التي سممت الحياة الطبيعية في نهري دجلة والفرات، مثل أنابيب الصرف الصحي التي تصب من مستشفى مدينة الطب مباشرة في مياه دجلة، وكذلك مصبات الصرف الصحي على طول جانبي النهر.
عمليات الصيد الجائر انتشرت أيضاً بكثرة بين الصيادين لعدم وجود رقابة فعالة على هؤلاء المخالفين الذي وصفهم عدنان “بضعفاء النفوس” قائلاً: “سابقا كان هناك قوانين و رقابة شديدة تفرض علينا لدرجة أننا كنا ملزمين باستخدام نوع معين من الشباك وكمية معينة من الأسماك نصطادها في كل موسم تفادياً لنقص اعداد الاسماك والمحافظة عليها، على عكس ما يحصل اليوم تماماً”.
كل هذه العوامل تجتمع اليوم لتكون عبئا على الصيادين الذي نشأوا وتربوا على ضفاف الانهار ولم يعرفوا مهنة غير الصيد، عيونهم تبدو بائسة تطيل النظر في النهر على أمل أن يرتفع مستوى المياه جالباً معه بعض الرزق لكن آمالهم تتضاءل يوماً بعد يوم بعودة فتح السدود من دول المنبع.
فاضل جمعة احد الصيادين الذي أمضوا جلّ عمرهم في الصيد وهو صديق لعدنان منذ قرابة خمسة عشر سنة، يقول: “جمعتني مواقف كثيرة مع عدنان وملات علينا أيام حلوة وأخرى مرة، لكننا لم نشهد محنة أصعب من محنة الجفاف”.
معظم الصيادين في المدن مثل بغداد فقدو عملهم في الصيد اما في اهوار الجبايش والعودة والحويزة حيث جفت المياه بشكل كامل فلم يعد هناك وجود لهذه المهنة.
فاضل الذي يعيش في بغداد يخشى أن يلقى المصير ذاته، يقول: “انا رجل عشت حياتي صيادا وأريد أن أموت صياداً، على الرغم من اني لا اصطاد غير سمكتين او ثلاث في اليوم”.
ويتابع كلامه: “انا لا اخون دجلة.. انا وفيّ لهذا النهر في فرحه وحزنه لا اتركه ابداً”.
يشير الخبير البيئي احمد صالح إلى أن العراق منذ بداية الصيف الحالي قد خسر الاف الاطنان من الثروة السمكية.
ويؤكد أن نسبة الضرر في بغداد كبيرة، “فقد خسرت ما يقارب 80٪ من اسماكها وكذلك خسرت العمارة 90٪ والبصرة 70٪ من ثروتها السمكية، وبالتالي وصلت نسبة الضرر العام بالعراق إلى 80 أو 85 بالمئة من الثروة السمكية”.
بالإضافة إلى الخسارة غير المسبوقة، هناك انواع كثيرة من الاسماك كان العراق يشتهر بها لكنها لم تعد موجودة في الانهار.
يقول فاضل” سابقاً كان منسوب المياه مرتفع جداً لدرجة أن مياه الانهار كانت تختلط مع مياه الاهوار لتنتقل الاسماك من الاهوار الى النهر وتملأه، لكن الاهوار جفت اليوم بالكامل”.
يكمل الكلام صديقة عدنان قائلاً بحسرة إن “سمك البني والبز لم تعد موجودة في الانهار وهي اليوم شبه منقرضة”.
هذه الأمر جعل بعض الصيادين يطالبون الحكومة بتأمين رواتب رعاية اجتماعية لهم كي يتمكنوا من إعالة أسرهم، في حين اضطر قسم منهم للهجرة إلى مراكز المدن بحثاً عن عمل آخر.
أحمد صالح يروي لـ المنصة الاثار النفسية والاجتماعية التي تحدث للصياد نتيجة خسارة مهنته قائلاً “إن الصياد تعود على الخروج منذ الصباح الباكر ليرمي شبكته في النهر ويأكل ويعيش مما يصطاد، ومن الصعب جداً تغير نمط عيشة وسلوكياته التي اعتاد عليها فهو لا يتقبل العمل في مكان أخر أو عند شخص آخر، ويأخذ الامر على منحى شخصي ويعتبره مسّاً بكرامته وعزة نفسه”.
الصياد عدنان افتتح محل في سوق شواكه لشواء “السمك المسكوف” وهي طريقة خاصة بالعراقيين في طهي السمك، يقول “لا استطيع الابتعاد عن السمك والنهر فهناك ترابط روحي بيننا.. انها ليس مهنة فقط بالنسبة لي”.
يعمل إلى جانب عدنان منذ فترة وجيزة حسين جاسم وهو قريب له نزح من محافظة العمارة.
حسين، 27 عاماً، اتى قصد بغداد منذ قرابة سنة هرباً من الجفاف، يقول: “كنت اعمل صياداً لكن بسبب الجفاف الذي حل بأرضنا لم يعد هناك عمل فاضطررت للهجرة، وهذا حال أغلب العائلات في منطقتي”.
يتحدث حسين عن الصعوبات التي يواجها فمنذ ان أتى الى بغداد وهو يعمل في اي فرصة عمل يحصل عليها، فعمل في المخابز والنجارة والمطاعم واخيرا استقر الى جانب عدنان.
يقول: “الحياة هنا مختلفة وصعبة، لا تشبه حياتي التي كنت اعيشها في العمارة.. هنا أمضي معظم الوقت في المحل، وعندما أفرغ من مهام العمل لا أفكر سوى في شيء واحد: أن تعود المياه الى الاهوار وأعود إلى دياري”.