العراق يتحول الى “جزر حرارية”.. قتل الاشجار من أجل بناء العقارات والمولات

بغداد – فاطمة كريم

ما أن تغيب الشمس عن سماء بغداد حتى يخرج العم أبو علي ليسقي مزروعاته التي غرسها امام باب منزله في شارعه الذي بات مليئاً بالأشجار، وغالبا ما يتسابق احفاده للعب في الحديقة بعد ان هيأ لهم جدهم الاجواء ليخفف عنهم حرارة الجو.

أبو علي، حمدان محمد مزارع في الستينات من عمره من سكنة منطقة ناحية الجوادين في بغداد، أتى إليها منذ قرابة خمسة اعوام فقط بعد أن جفت أرضه التي كان يملكها في ناحية التاجي شمالي العاصمة. 

يقول “منذ ان اشتريت المنزل صممت على زراعة الحديقة فالزرع بالنسبة لي متنفسي الوحيد في الحياة.. يمكنكم القول بأني مهووس بالزراعة”.

كانت أرض العم أبو علي في منطقة التاجي مزرعة بمختلف انواع الخضروات والفواكة، مساحتها عشرون دونماً، لكن موجة الجفاف التي ضربت البلاد قتلت الأشجار والمزروعات مما اضطره الى بيعها. 

لكن المزارع البغدادي لم يستطع ان يترك ما تربى عليه وعاش من اجله فاستمر في الزراعة حتى بعد فقدانه الأرض. يقول” اينما اجد تربة يمكنني ان ازرع بها ولو نبتة صغيرة لا اتردد أبداً.. اجد يداي قد حفرت الارض وغرست نبتة”.

يكاد يكون منزل ابو علي الوحيد في الشارع الذي يمتلك حديقة كبيرة فغالبية المنازل مساحتها مبنية بالكامل ومكونة من عدة طوابق، هذا المنظر نشاهده اليوم في جميع مناطق بغداد، إذ لم تعد المنازل البغدادية التي تعدّ الحديقة إحدى أساسياتها طرازاً مألوفاً بعدما تغيرت مظاهر البيوت الحديثة وأصبحت كتلاً من الأحجار والزجاج والحديد.

تقول الخبيرة نوال محمد سلمان وهي استاذة في التخطيط الحضري ودكتورة في الجغرافية “بغداد وبعض المحافظات اصبحت جزراً حرارية تغطيها المجمعات السكنية بدلا من الاشجار، فتحولت العاصمة إلى مجموعة من المولات والمجمعات السكنية والمطاعم”.

وتتابع “بدأت المساحات الخضراء تتناقص مع زيادة المباني الكونكريتية وهي احدى اهم الاسباب التي ساهمت في زيادة درجات الحرارة، الامر الذي جعل من المفرح لنا ان نجد منزلاً في بغداد ما زال يمتلك حديقة واسعة”.

تؤكد سلمان في حديثها على اهمية تشجير بغداد وبقية المدن العراقية، فهو يحميها من عوامل التعرية ويخفف من وطأة العواصف التربية، كما يقلل من سرعة السيول والفيضانات، اما عن فقدان الاراضي الزراعية في العراق بسبب قلة الغطاء النباتي فتقول أن ”37 مليون دونم في السهل الرسوبي في الوسط والجنوب تصحرت كما ان 19مليون دونم منها اصبحت غير صالحة للزراعة”.

وتضيف أن أكثر ثلاثة قطاعات في العراق تساهم في التلوث بالتسلسل هي قطاع التشييد والبناء وقطاع النقل وقطاع استخراج النفط، وجميع هذه العوامل اجتمعت لتجعل من مدن العراق  “جزيرة حرارية” أي انها باتت مناطق تغطيها المباني وتقل فيها المساحات الخضراء وتكثر فيها المصانع وتستخدم مواد بناء غير صديقة للبيئة تمتص الحرارة وتخزنها في الجو.

يزرع ابو علي في حديقته أشجاراً معمرة ومناسبة لجو العراق مثل الزيتون والرمان والنارنج والنخيل وهو الان في انتظار” محبوبته” كما أطلق عليها اي شجرة الرمان بأن تنضج ثمارها ليحصدها ويأكل منها هو واحفاده، ولن ينسى التمر العراقي الاصيل الذي عرف بأجود انواعه، ويقول “نحن العراقيين نتحمل حرارة شهر آب لنأكل التمر في النهاية”.

نتائج زراعة الاشجار كبيرة على المناخ، فالأشجار تسحب الملوثات من الجو وتحافظ على انخفاض درجات الحرارة فضلا عن كونها مظلة للسابلة وسياراتهم من اشعة الشمس والاهم من هذا أنها تحافظ على المواد العضوية للتربة وتحميها من التعرية، كذلك تعمل بمثابة مصدات للعواصف الترابية التي تجتاح البلاد في كل عام.

تنوه الدكتورة آفاق ابراهيم وهي خبيرة في مكافحة التصحر على ضرورة اختيار الشجرة المناسبة لزراعتها في المكان المناسب ومراعاة العوامل البيئية والجوية في المكان التي تزرع به الشجرة وحتى المجتمع المحيط بها لأن كل هذه العوامل تؤثر على استمرارها وعدم تعرضها للقطع.

ومن أهم الاشجار التي تنمو في جو العراق وتتحمل درجات الحرارة العالية وشحة المياه وملوحة التربة، السدرة والزيتون والرمان والنارنج والاوكالبتوس والالبيزيا والسنديان، بحسب ابراهيم.

وتضيف “في السابق كانت هناك عقوبات صارمة على من يقطع شجرة من الشارع فيتعرض للسجن أو يدفع غرامة مالية كبيرة لكن اليوم للأسف نرى الحكومة هي من تقطع الاشجار لغرض توسعة الشارع أو بناء مجمع سكني”.

القطع والحرق والعطش، كل هذا تواجهه الأشجار في واحد من أكثر البلدان تضرراً من التغيرات المناخية في حين أن يؤكد خبراء مناخ أن الحل الوحيد لمواجهتها هو التشجير والمحافظة على الاشجار.

المتحدث الرسمي بإسم  وزارة الزراعة محمد الخزاعي  يقول “نسعى بأن تكون بغداد وباقي المحافظات العراق مشجرة ومثالية  لأن العراق لم يشهد حملات تشجير حقيقية مدروسة ومخططة منذ فترة النظام السابق وهذا يرجع الى ضعف تواصل الجهات المعنية”.

ويضيف الخزاعي أن العراق بحاجة الى ما يقارب 15مليار و200 مليون شجرة ليستعيد ما فقد من غطائه النباتي ويعيد توازنه البيئي، “هذا العدد لا يستهان به ويحتاج الى جهود مكثفة ومتواصلة ومتابعة مستمرة لتحويل الاراضي الجرداء الى خضراء”.

يروي الخبير البيئي حسين علي حادثة قطع شجرة في أحد شوارع بغداد يتجاوز عمرها الستين عاماً، وبعد سؤاله عن سبب قطعها ـجابوه ”أنها تسبب الاوساخ”.

يقول “شعرت بالصدمة ولأول مرة لا اعرف ما الذي علي قوله لهم.. إ نهم يعتبرون اوراق الاشجار المتساقطة اوساخاً ولا تهمهم النفايات التي تملؤ الشوارع”.

يقترح الخبراء البيئيون حلولاً عدة لظاهرة التصحر في العراق منها الاستعانة بالخبرات العلمية لاستعادة الاراضي التي لم تعد صالحة للزراعة وتسليط الضوء على اهمية التشجير وزيادة وعي المجتمع بالتغيرات المناخية وتشريع قوانين صارمة تمنع قطع الاشجار وتجريف البساتين.

أما أبو علي فلا يحتاج الى جهد كبير ليقتنع بأهمية التشجير، فقد ورث حب غرس الأشجار بالفطرة، يضع كفيه الواحد في بطن الآخر خلف ظهره متجولاً بين أحفاده، أصواتهم في الحديقة تتعالى، يمازحهم ويراقبهم وهم يلعبون. “سأبقى اهتم بهذه الأشجار كما أهتم بأحفادي.. ولن اتخلى عنها” يقول بإصرار.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى