مقاهي بغداد التراثية: روح بغداد وبوابتها إلى الماضي

بغداد- مصطفى جمال مراد

في مقهى أم كلثوم الشعبي في شارع الرشيد بالقرب من ساحة الميدان في بغداد يجلس رجل سبعيني يرتشف كأساً من الشاي مستمعاً لصوت غناء أم كلثوم يعمّ أرجاء المكان. 

إنه عبد نوار واحد من أبرز خطاطي المدينة وأحد زبائن المقهى الدائمين، اعتاد التواجد هنا على طاولة محددة ارتبطت باسمه منذ سنوات طويلة، حاله حال العديد من وجوه بغداد البارزة من مجايليه أو من أولئك الأصغر سناً. 

في المقهى نفسه وطوال العقود الماضية كان يقصد هذا المكان مثقفون وفنانون ورجال دولة بارزون وآخرون من أهالي الحي. 

تأسس مقهى أم كلثوم  في أواخر خمسينيات القرن الماضي على يد الحاج عبد المعين الموصلي الذي كان يذهب  إلى مصر لحضور حفلات السيدة أم كلثوم بغرض تسجيلها  وتوثيقها، وحمل المقهى اسمه تيمناً باسم المطربة المصرية التي زارت بغداد عام 1932 وقامت بالغناء في ملهى الهلال القريب من مكان المقهى الحالي، فزاد ولع العراقيين بها بعد رحلتها هذه. 

“أشعر بأن أم كلثوم حاضرة بروحها وصورها المعلقة على الجدران، تلك الصور التي التقطت لها في حفلاتها وزياراتها” يقول الخطاط البغدادي ثم يشير بسبابته  لصورة قديمة معلقة على الجدار ويقول “هذه صورة أبو عباس، أول چايچي (صانع الشاي) في المقهى”.

يروي عبد نوار أن أبو عباس كان يجهز مشغلات الاسطوانات الأربعة واضعاً اسطوانة لأم كلثوم في كل واحد منها، فما أن تنتهي الأسطوانة الأولى حتى يقوم بتشغيل الثانية وهكذا، يفعل هذا بينما يقدم كؤوس الشاي إلى الزبائن والابتسامة لا تفارق وجهه.

يقول نوار: “عندما يطلب الزبون الاستماع لأغنية محددة كان أبو عباس يكتب اسم الأغنية على ورقة، وكان يبث الأغاني بالتتابع حسب تسلسل الطلبات، فكان الزبون أحياناً يضطر للانتظار ثلاث ساعات أو أكثر لحين عرض الأغنية”.

يستذكر عبد نوار ركناً في المقهى كان يجلس فيه طلاب في أكاديمية الفنون الجميلة يرسمون بعض الزبائن شاردي الذهن تأثراً بغناء أم كلثوم، يساعدهم في إنجاز مهمتهم الهدوء الذي كان يعم المكان، إذ لم يكن هناك ضجيج في المقاهي التراثية بحسب وصفه، إنما فقط صوت الموسيقا وأحاديث الزبائن الهامسة.

الطبيب النفسي محمود العزاوي، 75 عاماً هو الآخر من مرتادي المقاهي التراثية، وتحديداً  مقهى حسن عجمي، لكنه يبدو اليوم ممتعضاً من تغير سلوكيات الزبائن. يقول: “من يرتاد المقاهي التراثية اليوم ليس في باله إلا أن يجلس يحتسي الشاي او يدخن الشيشة”. ويكمل”معظمهم يصرخون بينما يلعبون الورق أو الطاولة وأحياناً تصل بينهم إلى حد العراك إذا ماخسر فريق منهم”.

يعود تاريخ افتتاح مقهى حسن عجمي إلى عام 1917، وقد كان ملتقى لوجهاء بغداد يتبادلون فيه الأحاديث والطرائف والنقاشات السياسية والأدبية، من أمثال عبد الوهاب مرجان الذي أصبح وزيرا ورئيساً للوزراء، والمحامي عبود الشالجي وهو محام كبير له مكتبة أدبية وعلمية متميزة آنذاك. 

كما ارتبط هذا المقهى بالشاعر العراقي الراحل محمد مهدي الجواهري الذي كان يرتاده منذ عام 1926 حيث يروي الشاعر الكبير ذكرياته مع المكان قائلاً: “من باب الذوق الرفيع واعتزازهم بي كانوا يجلبون لي القهوة التي كُتبت على “كشوتها” كلمة الجواهري بخط أنيق وجميل”.

ويذكر كبار السن في شارع الرشيد أن مقهى حسن عجمي كان مفروشاً بالسجاد الفارسي وكذلك التخوت مغطاة بالسجاد مرتبّة بخطوط متوازية متقابلة على كامل مساحة المقهى بينها يتحرك صانع الشاي “شفتالو” بين الزبائن، وهو رجل من قصار القامة اشتهر آنذاك بحركته الدائبة التي لا تنقطع، اضافة الى وجود باعة السجائر والصحف اليومية وصابغي الأحذية.

على جانبي الموقد أو ما يسمى “أوجاغ” كانت السماورات اللماعة مرتبة على شكل هرم يصعد متسلقاً حتى يكاد السماور الذي في قمته أن يلامس سقف المقهى، وأمام قاعدة هرم السماورات كان يمتد صفّ طويل من النراجيل إضافة الى العشرات من أباريق الشاي بمختلف الأحجام والألوان، وأغلب أباريق السماور المخصصة للشاي المتواجدة فيه كانت تأتي هدايا من أعيان بغداد أو من الضباط الانكليز.

يضيف العزاوي أن طريقة التعامل داخل المقهى كانت أيضاً مختلفة، “يأتي  أحد العاملين حاملاً جرة وإناء ماء يقدمه للحاضرين، يتحدث للزبائن بكل محبة ولطف، ولم يكن أحد من الحضور يصرخ أو يزعج الآخرين”.

اشتهر مقهى حسن عجمي باعتباره مقهى لمثقفي الطبقة الوسطى إذ حرص الأدباء على التواجد فيه خاصة في أيام الجمعة ومنهم الجواهري الذي نظم فيه جزءاً من قصيدة “المقصورة” وأكمل بقيتها في منزله على ضفاف نهر دجلة، كما كان يرتاده أيضاً الشاعر بدر شاكر السياب لملاقاة الجواهري والتمتع بالحديث معه.

تظهر تعابير الحزن على وجه  محمود العزاوي عندما يقارن بين الماضي والحاضر قائلاً: “المشكلة أن المقاهي التراثية لا تجد من يهتم بها، البعض ممن يديرونها لا يمتلكون عقلية سياحية” لافتاً إلى أن “هذه المقاهي واجهه بلدنا السياحية يزورها آلاف الأفراد من مختلف الأماكن والبلدان وعلينا الاهتمام بها وإعادة الروح إليها”.

ما أن تخرج من مقهى حسن عجمي وتسير بضع خطوات إلى ركن الشارع حتى تصل إلى أحد أقدم المقاهي التراثية في المدينة وهو مقهى الزهاوي.

يقع “الزهاوي” في محلة الحيدر خانة قرب شارع المتنبي، ويعود تاريخ إنشائه إلى ما قبل عام 1917 بسنوات عديدة قبل فتح شارع الرشيد أيام الوالي العثماني ناظم باشا.

يقول عبدالله الجبوري، 85 عاماً، وهو مهندس مدني متقاعد كان جالساً على أحد الكراسي على رصيف المقهى يدردش مع أقرانه: “كان المقهى على شكل سقيفة بسيطة وجاءت تسميته بـالزهاوي تيمنا باسم الشاعر والفيلسوف جميل صدقي الزهاوي الذي كان أحد رواد المقهى”. 

ويضيف “المقهى يشكل وجهاً من وجوه المجتمع البغدادي، فهو المكان الذي كانت ترتاده شرائح اجتماعية متنوعة من بينها فئة “الافندية” وتعد من الفئات التي لعبت دورا في حركة التنوير والنهضة آنذاك”.

في أوائل الثلاثينيات دعا نوري السعيد السياسي العراقي البارز الذي شغل منصب رئاسة الوزراء 13 مرة، دعا الشاعر الزهاوي في المقهى الذي كان يسمى حينها باسم “البولندية” وكان المقهى يحتل موقعاً هاماً قرب سراي الحكومة إلى جانب بيوت الشخصيات المتنفذة في إدارة العراق من بينها منزل نوري السعيد.

يقول المهندس عبدالله إن الشاعر الزهاوي أعجب يومها بالمقهى الذي لم يكن فيه غير بضعة  تخوت وكراسٍ قديمة وفونوغراف بسيط، واكتشف أنه لا يبعد كثيراً عن دارة فاتخذه مقراً له، “نسي الناس اسم المقهى الأصلي وأضحى منذ ذلك الحين يحمل اسم الزهاوي”. 

ويضيف “كان الزهاوي يدبّج في هذا المقهى ردوده الشهيرة على الأديب عباس محمود العقاد، تلك الردود التي نشرتها صحف بغداد والقاهرة في الثلاثينيات، وفيه أيضاً استقبل الزهاوي شاعر الهند الكبير طاغور في ثلاثينيات القرن الماضي ودارت مناقشات حادة بين الزهاوي وبين منافسه الشاعر الرصافي، جرت على تخوت المقهى”.

تم اغلاق مقهى الزهاوي صيف العام 2022 لفترة من الزمن بسبب “بث أغانٍ هابطة” وورد في بيان لأمانة العاصمة العراقية يومها أن “صاحب المقهى أصر على تشغيل الأغاني الهابطة وبصوت مرتفع جداً، فكان الإجراء الأصولي بغلق المقهى لحين تقديم تعهد قانوني من قبل صاحب المقهى بعدم تشغيل مثل هذه الأغاني مستقبلاً”، وهو ما أثار جدلاً واسعاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ثم أعيد افتتاحه بعد ذلك.

وعلى رغم من تعاقب الثورات وتغير الحكومات وتعاقب الحروب والاحتلالات على البلاد لكن لم تتغير المعالم في معظم مقاهي بغداد التراثية، لكن ما يجمع عليه معظم من التقيناهم  أن سلوكيات الزبائن والأجواء الاجتماعية في المقاهي هي التي تغيرت، فبعد أن كان الجو الثقافي والسياسي والأدبي هو السائد فقدت المقاهي اليوم هذا الطابع المميز.

رغم ذلك، ما زال المهندس عبدالله الجبوري يرى أن “المقاهي التراثية فيها روح وأصل وجذور كل بغدادي ولا يمكن التفريط بها مهما حصل”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى