أخيراً أتى فصل الشتاء.. وعربات اللبلبي تعود الى شوارع بغداد
فاطمة كريـم – بغداد
في ساعات الصباح الاولى يتجه قاسم بعربته الصغيرة من منزله إلى ساحة الطيران في قلب العاصمة بغداد، يوقد النار تحت قدر اللبلبي منتظراً قدوم عشاق هذه الأكلة التي اعتاد البغداديون على تناولها في فصل الشتاء.
لم تسمح ظروف الشاب العشريني باكمال دراسته فخرج من المدرسة في سن مبكرة مجرباً عدداً من الأعمال الحرة إلى أن استقر في النهاية على بيع اللبلبي بعد أن اشترى له والده عربةً صارت مصدر رزقٍ له.
واللبلبي أكلة شعبية شتوية تتألف من الحمص المسلوق ومنكّهات أخرى ويعتبرها العراقيون وجبة مقاومة للبرد يتناولونها خصوصاً في الصباح الباكر أو في المساء. يقول قاسم “افتتح العربة منذ الخامسة صباحاً حتى السادسة مساءً ولدي زبائن من مختلف الشرائح، الطلاب والموظفين والعمال وحتى الأطفال”.
اختار قاسم ساحة الطيران مقراً لعربته لم يغيره منذ عدة سنوات، فالمنطقة ذات نشاط تجاري وحركة مستمرة على حد تأكيده.
ويرجع سبب تسمية الساحة بهذا الاسم إلى جمعية الطيران العراقية التي كانت متواجدة هنا والتي تأسست في حزيران عام 1933 من قبل وزارة الدفاع بعد وصول الدفعة الاولى من الطيارين العراقيين من بريطانيا.
في البداية كان مقر الجمعية في وزارة الدفاع بمنطقة الباب المعظم إلا أن الجمعية تمكنت بفضل نشاطها من جمع مبلغ مكنها من انشاء بناية خاصة بها وذلك في الثامن عشر من نيسان عام 1934 في منطقة الباب الشرقي وسميت الساحة التي شيد عليها صرح الجمعية بساحة الطيران.
التغيرات المناخية كان لها دور في تأخير ظهور عربات اللبلبي في شوارع بغداد هذه السنة بما فيها عربة قاسم، فبعد ان كانت درجات الحرارة تنخفض بدءاً من الشهر التاسع في السنوات السابقة ما زالت درجات الحرارة مرتفعة نسبياً في منتصف شهر نوفمبر مما ينعكس سلباً على الطلب على وجبة اللبلبي.
يقول قاسم “في فصل الصيف نعمل في بيع العصائر والمياه وما ان تبدأ درجات الحرارة بالانخفاض نحول نشاطنا إلى بيع اللبلبي لكن هذا العام هو اكثر عام تأخرنا به في البيع نتيجة تأخر انخفاض الحرارة”.
يشرح قاسم طريقة إعداد الأكلة الشعبية، إذ يحضر قدرا كبيرا يستوعب نحو مئة لتر من الماء وينقع فيه الحمص لستة ساعات ثم ينقله إلى قدر آخر ومعه عظام الخروف يكسوها بلحم قليل ويتركها على نار هادئة حتى ينضج الحمص.
يكمل قاسم حديثه: “في الصباح أبقي القدر على نار هادئة على العربة طوال اليوم كي يظل ساخناً، وعند طلب الزبون صحناً من اللبلبي أضيف إليه الليمون والفلفل الأسود حسب رغبة الزبون.”
وتشير دراسات تاريخية إلى أن حبة الحمص كانت على الأرجح وراء انبعاث حضارة بلاد ما بين النهرين وأن القدماء في تلك المنطقة لجأوا الى زراعة الحمص وتناولوا أنواع مختلفة منها رغم صعوبة نموها، وتوالت السنين وأصبحت من الأكلات الشعبية الشتوية.
ويتذكر بغداديون كثر أيام الطفولة ساعة الخروج من المدارس عندما يتجمع التلاميذ عند بائع اللبلبي وهو ينادي “لبلبي يا لبلوب”، وتعتبرها الأمهات من الأكلات الدافئة والمليئة بالبروتينات والفيتامينات، بالأخص عند اضافة اليمون او النارنج حسب الرغبة، فهي مفيدة جدا لصحتهم عند اصابتهم بنزلات البرد.
ولا تقتصر البلبي على العاصمة فقط، فأينما تحط قدميك بأي مدينة عراقية تجد عربات الباعة المتجولين في الشوارع بكثرة في فصل الشتاء، يتحدث قاسم قائلاً: “يتواجد هذا الطعام في جميع مناطق العراق باختلاف الوانها وهو طعام كل العراقيين المفضل في الشتاء لكن الاختلاف بين مدينة وأخرى يكمن في طريقة تحضيره”.
سلام عبدالله طالب جامعي واحد زبائن قاسم، يقول: “يوميا في الصباح عند ذهابي الى الجامعة أمر من أمام عربة قاسم ورائحة اللبلبي تملأ المكان، لا استطيع المقاومة فقاسم يحضّر اللبلبي بطريقة محترفة”.
يتحدث قاسم عن الصعوبات التي يواجها في العمل سواء من قبل الجهات الامنية او بسبب الظروف البيئية، “دائما ما تأتي البلدية وتمنعنا من وضع العربات في ساحة الطيران باعتبارها منطقة تجاوز على الحق العام”.
ويكمل “لم يكتفوا بالتهديد المستمر ففي العام الماضي تعرضت عربتي الى التكسير من قبلهم، وقد طالبنا مراراً بتخصيص اماكن للباعة لكن دون جدوى”.
كما أن التغيرات المناخية التي تعصف بالبلاد وتآكل البنى التحتية للشوارع يؤثران أيضاً على عمله، “خذ أبسط الامور عند هطول الامطار مثلاً، تغرق الشوارع ونضطر للعودة الى منازلنا ويتسبب هذا في قطع رزقنا”.
يشير بائع اللبلبي إلى ان ذروة الطلب على هذه الوجبة يكون في الصباح فيتوقف المارة عند العربة ويتناولون حصتهم الغذائية من الحمص المسلوق، أما المستعجلون منهم فيحصلون على وجبة “سفري” يأخذونها معهم اينما ذهبوا.
“الموظفون هم اكثر فئة يطلبون السفري”، يقول قاسم مشيراً إلى أن سعرها لا يختلف عن سعر الوجبة العادية، وهو بكل الاحوال زهيد جداً يبدأ من الف دينار عراقي فما فوق حسب الكمية التي يطلبها الزبون.
ليس فقط اللبلبي من يحظى بمكانة خاصة في قلوب العراقيين وانما “الباقلاء” و”شلغم” التي يقدمهما قاسم الى جانب اللبلبي لتكون مصدر رزق اضافي “فلكل طعام عشاقه” حسب تعبيره.
يستمر قاسم في بيع طعامه وسط اجواء شتائية ويستمر زبائنه يتوافدون حبا به وبما يقدمه، لكنه يطلب من الجهات الحكومية ان تدعه هو وبقية الباعة يمارسون عملهم دون خوف ـو يخصصوا لهم اماكن وقوف نظامية، فهذا مصدر رزقهم الوحيد.