اسطوانات جقماقجي.. رحلة طويلة مع الفن والانتاج الموسيقي العراقي

بغداد – مصطفى محمد 

في قلب خان المدلل بمنطقة الميدان في بغداد يتألق محل “أسطوانات جقماقجي” كإحدى الروائع التي تحكي قصة طويلة عن الفن والموسيقى العراقية، إذ يعتبر مرآة للتراث البغدادي في حين يصفه آخرون بأنه “خزان للزمن” يحتضن مقتنيات تنبض بالتاريخ.  

في زاوية المتجر بخان المدلل، يجلس نجم جقماقجي الملقب بأبي محمد، صاحب المحل الذي يحمل اسم عائلته، متحدثاً عن جذور عائلته الراسخة في الموصل حيث أسس جده الحاج فتحي جقماقجي شركته في عام 1918.

يفخر نجم بالجدّ المؤسس ويحكي قصة انتقال الشركة إلى بغداد في عام 1939 عندما افتتح الجد أول مقر للشركة في منطقة الحيدر خانة بشارع الرشيد، متخصصًا في الكهربائيات والوكالات التجارية. ومع مرور الزمن، قام الجقماقجي بتأسيس استوديو خاص بشركته وبدأ بتسجيل حفلات المطربين، وكانت هذه بداية رائدة في عالم التسجيل في العراق. 

استفادت الشركة آنذاك من تكنولوجيا ذلك الوقت بتسجيل الأغاني على الاسطوانات الحجرية، وأبدت استعدادها لاستضافة الفنانين وتسجيل أدائهم، وكانت ترسل التسجيلات إلى اليونان ليتم نسخها وتوزيعها، ثم تألقت عملية تداول الاسطوانات في الأسواق، خاصةً بعد اعتماد مادة البلاستيك في صناعتها.

من بين الفنانين البارزين الذين سُجِّلت أعمالهم على اسطوانات الشركة “داخل حسن”، و”مسعود العمار تلي”، و”حضيري أبو عزيز”، و”ناظم الغزالي”، وغيرهم كثيرون .

هذه الأسطوانات كانت وسيلة للمحافظة على التراث الموسيقى في العراق، فلولاها لما عرف العديد من هذه الأسماء ولما وصل إلى مسامع جيل اليوم، كما يقدر العديد من الناس قيمة هذه الأسطوانات باعتبارها جزءًا من تاريخهم الفني والثقافي.

المحل الذي يديره نجم حالياً يحمل ذكريات لا تمحى، حيث كان يُسجل فيه المطربون والمطربات، وتُرسل الأصوات إلى السويد لطبعها على أسطوانات تتحفنا بألحانها النادرة. 

وإلى جانب تسجيل الأغاني العراقية، كانت الشركة تمتلك وكالات لأسطوانات عربية بارزة مثل “كايرو فون” و”صوت القاهرة” و”صوت الفن” لتضيف مزيداً من التنوع على أسطوانات الموسيقى المعروضة في الأسواق العراقية، والتي تشمل أعمالًا لمختلف الفنانين والمطربين العراقيين والعرب. 

الشركة التي بنيت على أسس صلبة لم تقتصر على الأسواق المحلية، بل امتدت تأثيراتها إلى الدول العربية، ولا تزال أغانيها العراقية المميزة مطلوبة ومحبوبة، خاصةً في دول الخليج حيث يجد الجمهور جاذبية خاصة في لهجة الأغاني العراقية.

وعلى الرغم من التقدم التكنولوجي وظهور وسائل التسجيل الحديثة، يظل هناك إقبال قوي على شراء الأسطوانات، بحسب أبي محمد، خاصةً بين عشاق الفن التقليدي والموسيقى العراقية الأصيلة، و”يعكس هذا الاهتمام استمرار تأثير الأسطوانات في إشباع رغبات الجمهور الباحث عن تجارب فريدة وأصوات تحمل قصصًا وتراثًا فنيًا” يقول.

مع تقدم التكنولوجيا، استمرت أسطوانات جقماقجي بالتواجد كعلامة فارقة في عالم الإنتاج الموسيقي العربي، ورغم التحديات والصعوبات التي واجهتها، إلا أن الشركة ظلت مواظبة على تسجيل الإرث الفني العراقي.

لكنها واجهت في مجال بيع الأسطوانات تحديات وصعوبات عكّرت أحيانًا من صفو الأجواء خلال بعض الفترات. ويعزو أبو محمد ضعف التسويق إلى “تغييرات طرأت على عادات الاستهلاك بسبب تطور التكنولوجيا حيث انتقل الاهتمام إلى الكاسيت الذي يحتوي على مجموعة من الأغاني، فأصبح بديلًا شائعًا حينها، حيث يمكن تسجيل مجموعة من الأغاني على شريط واحد”.

على الرغم من هذه التحديات، استطاعت الشركة التكيف والتغلب على الصعوبات من خلال التحول نحو التكنولوجيا الحديثة، فبدأت بإنتاج الأسطوانات على شكل أقراص CD، في استجابة منها لتوجهات المستهلكين نحو الوسائط الحديثة. “هذا التكيف عكس إصرار الشركة على البقاء رائدة ومتميزة في مجالها عبر العقود المتعاقبة” يقول أبو محمد.

اليوم، يواصل متجر “جقماقجي” تاريخه الفني الكبير، حيث يفتح أبوابه صباحًا من العاشرة حتى الرابعة، ليستمر في تقديم أسطوانات تحمل تراث العراق إلى عشاقه في الداخل والخارج. يقصد المحل أولئك المهتمين بالاسطوانات وبجمع الإرث الموسيقي العراقي، يستقبلهم أبو محمد ملبياً توقعات واحتياجات عشاق الفن في رحلة استماعهم. 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى