من مخزن مهمل إلى منتدى ثقافي.. كيف أعاد شاب بصري الروح إلى مبنى تراثي
البصرة- نغم مكي
في زقاق شعبي في محلة السيمر في مدينة البصرة القديمة يقع مقهى ومنتدى “بويب” التراثي. لا شبكة انترنت هنا ولا مكان للشاشات الرقمية، فالزمن يتوقف بمجرد دخولك إليه أو بالأحرى يعود إلى الوراء، إلى صوت الاغنيات القديمة وعبق رائحة الشاي الساخن، مذكراً بمدينة كانت في يوم من الأيام واحدة من أبرز العواصم الثقافية في الشرق.
صاحب المقهى الحسن سعد ذو التاسعة عشر عاماً، يتجول في زوايا المكان متفحصاً كل تفصيل، يغمره الرضا بعد أن أعاد للمبنى روحه وأصالته محولاً إياه من بيت تراثي مهمل إلى مقهى ومنتدى تراثي يتوافد عليه السياح ورواد الثقافة والأدب والمهتمين بالطابع العمراني والتاريخي للمدينة.
يجول الحسن بنظره بين الصور المعلقة على الجدران مسمياً صاحب كل صورة، هذا أحمد مطر وهذا بدر شاكر السياب وهذه صورة طالب النقيب وعلى جدار آخر المزيد من الصور لشخصيات أسهمت في صنع تاريخ البصرة الموسيقي والأدبي.
قبل أن يفتتح المقهى درس الحسن في معهد السياحة في البصرة مما زاد شغفه بتراث مدينته، فبدأ بجمع المقتنيات التراثية معرفاً نفسه بأنه “أصغر هاوٍ لجمع الأنتيكات في المدينة”، ثم سرعان ما لمعت فكرة افتتاح المقهى في رأسه وبدأ رحلة البحث عن مكانٍ يعرض فيه تلك المقتنيات.
لم يكن ايجاد البيت الأثري المهمة الأصعب بالنسبة لهذا الشاب بل ترميمه والحفاظ في الوقت نفسه على هويته التراثية من الداخل والخارج، وقد استغرق العمل فترة ثلاثة أشهر تخللتها صعوبات في إيجاد عمال بناء يقومون بذلك.
“توليت أنا واصدقائي عملية الترميم وإعادة البناء بعد أن جمعنا المواد من بيوت أخرى هُدمت، فالسقف الچندل من قضاء أبي الخصيب والشبابيك من قضاء التنومة اشتريناها إنقاذاً لها، فأغلب المواد الخشبية باتت تستخدم اليوم حطباً للشواء” يقول الحسن، ويتابع “هذا كان أصعب من رحلة البحث المشتركة مع أصدقائي عن بيت تراثي”.
أما عن أثاث المقهى فقد اجتهد حسن في محاكاة قطع تقليدية كانت تستخدم في المقاهي القديمة، فأغلب الموجود هو من اغراض مستعملة ألقيت من قبل أصحابها في الشارع أو بيعت في أسواق الخردة.
يشير الشاب للكراسي قائلاً: “أثناء تجولي في القشلة في حي العشار رأيتها مغطاة بالتراب وكانت النفايات مكدسة فوقها إلى جانب إحدى المنازل، طرقت الباب واستأذنت صاحب البيت بشرائها ثم أصلحتها وجلبتها معي إلى هنا”.
يعود تاريخ البيت الذي رممه حسن إلى أكثر من 90 عاماً وهو مبنيّ من قطع أصغر من الطابوق كان لا يصلح للسكن بسبب الإهمال، تنتشر فيه رائحة وقود الديزل نتيجة استخدامه مخزناً للدراجات النارية، ولهذا السبب بالتحديد كان طوال السنوات السابقة مصدر ازعاجٍ لأهالي الحي.
يفخر الحسن اليوم بتحويل المكان من مخزن شبه مدمّر إلى مشروع ثقافي وسياحي بمساعدة صديقه الذي يعمل مرشداً سياحياً، وهما يواظبان منذ افتتاحه على تأكيد هذا الطابع الخاص من خلال إقامة ندوات وجلسات حوارية وأمسيات شعرية وغنائية صوفية تعتبر الأولى من نوعها في البصرة بعد فترة انقطاع طويلة.
يرتاد السياح الأجانب والشباب البصريين وحتى كبار السن المقهى، يتحدثون عن السينما والمقامات الموسيقية والشعر والسياسة، حتى أن احد الزوار الذين قابلناهم وصفه بالمكان الأنسب لاسترجاع تاريخ البصرة.
أما عن تسمية المقهى باسم “بويب” فيذكر الحسن أنها تيمناً بنهر بويب الذي ذكره الشاعر بدر شاكر السياب كثيراً في قصائده وأغدق في وصفه، وهو نهر يبعد عن شط العرب أكثر من كيلومتر وكان في الأصل مصدراً لريّ بساتين النخيل.
يطمح الحسن لمتابعة هذه التجربة وتعميمها على أكثر من بيت تراثي يتم تحويلها لمنتديات ثقافية ومعارض فنية تشكل مساحة للشباب للتعرف على ثقافة الجنوب العراقي ونقطة جذب سياحي للمدينة الغائبة عن خارطة السياحة العربية.
يعرف جيداً أنه بدأ من مكان صغير وأن المشروع ما زال في مراحله الأولى لكنه يقول بثقة أن المقهى رغم ذلك “يتسع لمحبي المدينة” ثم يؤكد أنه سوف يتسع أكثر عندما يتحقق حلمه بافتتاح المزيد من المنتديات التراثية.