“بيت برتو” .. أيقونة الصدرية لأكثر من 120 عاماً
بغداد- مصطفى جمال مراد
في سوق الصدرية الشهير ببيع المأكولات الشعبية في العاصمة بغداد وسط إحدى الدرابين الضيّقة يقبع محل صغير الحجم لم يتغير ولم يتبدل رغم تعاقب الأزمات والأحداث في البلاد فبقي محافظاً على نشاطه التجاري وعلى ما يقدمه من منتجات. إنه محل “بيت برتو” لبيع الجبن الذي تأسس منذ 120 عاماً.
يتجه صاحب المحل، ميثاق نعيم برتو، الرجل ذو الخامسة والأربعون عاماً إلى محله في السوق في الساعة السادسة صباحاً وهو روتين حافظ عليه طوال ثلاثين عاماً وورثه عن أبيه وجده “برتو” مؤسس المحل.
يقول بائع الجبن “كان محل جدي هنا عندما تم بناء السوق وكان المكان كبير جداً وليس مثل الآن دربونة (زقاق) صغيرة”.
عرفت محلة “الصدرية” في بغداد بهذا الاسم نسبة الى دفينها الشيخ صدر الدين محمد الهروي المدرس في المدرسة البشيرية المتوفى سنة 677 للهجرة بدلالة رخامة وجدت عند قبره بحسب المؤرخين، وأبرز معالم محلة الصدرية جامع سراج الدين الذي احتوى على مدرسة للعلوم العقلية والنقلية، ونما هذا السوق لاحقاً ليصبح مركزاً حيوياً للتجارة والأنشطة الاقتصادية.
يبيع ميثاق مختلف منتجات الحليب مثل السمن والكيمر والزبدة واللبن وأنواع عديدة من الأجبان كالجبن القرغلي والجبن البقري الذي يتميز بقلة الدسم وكذلك الجبن المثوّم الذي يعد مفيداً لمرضى القولون.
ويأتي بائع الجبن بهذه المنتجات من مناطق مختلفة من القرى المحيطة ببغداد مثل الصويرة والراشدية وسلمان باك ويكمل: “لدي معارف كثيرين من زمن والدي وجدي ورّثوا لأبنائهم مهنة صنع مختلف منتجات الألبان”.
تتعدد المحال التي تبيع منتجات الحليب في بغداد لارتباطها بكثرة الأبقار والأغنام، و يقوم غالبية أصحاب الأبقار بصنع الأجبان من الحليب الفائض خوفاً من تلفه “فالجبن عندما يحفظ في ظروف جيدة لا يتلف ويحافظ على شكله وطعمه لأسابيع عدة” بحسب ميثاق.
ولدى ميثاق طريقة مميزة في الحفاظ على الأجبان إذ يقوم بوضع الجبن ذي الطعم المالح في برميل مليء بالماء والملح كما يحفظ أنواع اخرى في الثلاجة كي لا تفقد طعمها.
ويروي”ميثاق” سبب تسمية جده باسم “برتو”، الاسم الذي يعرفه معظم سكان بغداد، قائلاً: “كانت والدة جدتي تتمنى أن ترزق بطفل لكن كلما كانت تلد ذكراً كان يموت، فنذرت إلى الله أن تسمي المولود اسماً غريباً (برتو) ومعناه الباشا، فبقي على قيد الحياة وصار صاحب أشهر وأقدم محل أجبان في البلاد”.
لم يتعلم الحفيد المهنة من جده إنما عن طريق أبيه “نعيم” الذي علمه أيضاً أصول التعامل في السوق. يذكر ميثاق موقفاً مازال مطبوعاً في ذاكرته عندما كان صغيراً وأتت امرأة إلى المحل من الذين يصنعون الجبن حاملة على رأسها قدراً كبيراً فدفع الفضول “ميثاق” ليفتح القدر لرؤية ما بداخله فوجد أن رائحة الجبن فيه كانت غير طبيعية، وعندما أخبر والده بأن الجبن متعفن لم يلتفت الأب للأمر واشترى بضاعتها منها وبعد ذهابها رمى الجبن في سلة النفايات.
استغرب “ميثاق”من فعل والده وأخذ يتساءل عن سبب شرائه الجبن ومن ثم رميه. “قال لي والدي، لا يجب أن نجعل المرأة تعود إلى بيتها من دون مال، فأطفالها ينتظرونها”، وأكمل والده قائلاً له: “ليس كل شيء لك.. يجب أن تفكر بغيرك”، فتعلم ميثاق من والده أن لا يعطي أولوية للمال والربح على حساب مراعاة ظروف الناس، لذا يرى اليوم أن “الرأسمال الحقيقي للمحل هو علاقة الثقة التي نبنيها مع الزبائن”.
خلال العقود الماضية جرت إعادة تأهيل”بيت برتو” لأكثر من ست مرات تعرض خلالها المحل لتقلبات اقتصادية عدة، فقبل عشرين عاماً “كان العمل مزدهراً وكنا نفتح المحل من الصباح الباكر الى العاشرة ليلاً أما الآن فاختلف العمل جذرياً عن السابق وصرنا نغلق المحل في أوقات مبكرة”.
ويضيف ميثاق: “بعد دخول الأجبان والمنتجات الصناعية المستوردة أصبح الناس يشترونها أكثر من الأجبان محلية الصنع”.
لكن ورغم تقلب الظروف لم يغلق محل “برتو”، فحتى في زمن الغزو الأميركي للعراق كان ميثاق يأتي كل يوم الى المحل مصراً على متابعة نشاطه التجاري. “كان القناص يطلق الرصاص على المدنيين فنركض بأقصى سرعة إلى هذه الدرابين ونفتح المحل لكسب رزقنا” يقول.