أطفال تهرب من نيران العطش والرصاص فتفقد حقها في التعليم

ذي قار – أسماء الشعلان

لم يكن عليّ ذو العشر سنوات يعلم أن نزاعاً مسلحاً بين عشيرتين سيكون سبباً في إنهاء مستقبله الدراسي والتحاقه بأفواج الأطفال المحرومين من التعليم في العراق.

بينما كان تلميذ الصف الرابع الابتدائي يلعب مع أشقائه في منزلهم الريفي على أطراف مدينة الناصرية نشبت معركة بالرصاص الحي بين عشيرته وعشيرة أخرى إثر خلاف بين شخصين.

تطاير الرصاص في أرجاء المنزل وحطم زجاج نافذة عليّ، ومنذ ذلك الوقت تعرض الولد لأزمة نفسية سببت له تبولاً لاإرادياً. تقول والدة علي: “حاولتُ جاهدة أن يبقى عليّ في المدرسة لكن الاحراج الذي كان يقع به كل يوم بين زملائه دفعه لترك مقاعد الدراسة مرغماً”.

حوالي عشرة آلاف طفل

بعد تسجيل العراق في سبعينيات القرن الماضي خلوه من الأمية ها نحن في مطلع العام 2024 أمام عشرات آلاف الأطفال الذين يتسربون من المدارس. ووفقاً لمنظمة اليونسكو سجل العراق في السنوات الاخيرة ارتفاعاً في نسبة الامية التي تجاوزت الـ 47 في المائة.

أما في ذي قار، فكشف أحمد الموسوي مسؤول الملف التربوي في مكتب حقوق الانسان عن تسرب حوالي سبعة آلاف طفل من المرحلة الابتدائية للعام الدراسي 2022-2023  أربعة آلاف منهم من الذكور، أما في المرحلة الثانوية فبلغ العدد 2070  من الذكور و 587 من الإناث فيما بلغ المتوسط 2312 ذكراَ و 2060 أنثى، وهي أعداد تتصاعد إذا ما تمت مقارنتها بالعام السابق 2021-2022 إذ بلغ حوالي 4500 متسرباً.

ويعزو خبراء تسرب آلاف الأطفال من الدراسة إلى مجموعة من الأسباب من بينها النزاعات العشائرية التي لا تتوقف خصوصاً في محافظات الجنوب، كما هو الحال مع الطفل علي، أو بفعل التغيرات المناخية التي اتسع أثرها في السنوات القليلة الأخيرة مجبرةً آلاف الأسر على النزوح عن مواطن سكناهم صوبَ مراكز المدن بحثاً عن لقمة العيش.

من منزل إلى آخر

تروي سعاد، 41 سنة كيف تحولت أراضي قريتها لى أراضٍ بور في السنوات العشر الأخيرة فأجبرت مع ثلاثة أولاد ذكور وبنتين تتراوح أعمارهم بين 10 -20 أعوام على النزوح إلى قرية أخرى ثم ثالثة.

كثرة التنقلات دفعت أبناء سعاد الذكور إلى التوقف عن الذهاب للمدرسة والانخراط في سوق العمل غير النظامي، “المدارس تبعد ما لا يقل عن 10 كيلو متر تتخللها طرق فيها قنوات ري وبزل”، تقول.

أما البنتان (13 و15 سنة) فكان لهما المصير ذاته الذي تعاني منه فتيات القرية وهو ترك الدراسة بعد الوصول إلى سن المراهقة. بحسرةٍ تضيف سعاد: “لو كان الأمر بيدي لما سمحت للبنات بترك المدرسة.. لا أريد أن تتكرر مأساتي وأزوجهما وهما في سن الطفولة”.

تدهور الأحوال المعيشية دفع أيضاً “رقية” صاحبة الـ 12 سنة من مقاعد الدراسة إلى قارعة الطريق. الفتاة التي تركت مدرستها وهي في الصف الثالث الابتدائي لا تتذكر من رحلتها الدراسية القصيرة إلا بعض التفاصيل القليلة التي تتعلق بأسماء صديقاتها.

فقدت رقية والدها بمرض عضال وليس لديها هي وأخوتها معيل سوى أنفسهم. “اضطررت إلى ترك الدراسة بسبب الوضع الاقتصادي الصعب للعائلة” تقول رقية، وتتابع: “إخوتي الثلاثة وأنا نعمل لنعين أنفسنا”.

يعمل أخوة رقية على تقاطع شارع عام في بيع الماء ومسح زجاج نوافذ السيارات بينما تبيع هي عبوات المياه خلف بسطة لأكثر من عشر ساعات يومياً، ويعودون جميعاً في المساء إلى منزلهما المعتم والرطب في إحدى عشوائيات المدينة حيث يفتقدون لأي سبل للراحة.

طلاب يخشون الخطف والقتل

تعد النزاعات العشائرية سبباً في عدم انتظام الدوام الرسمي خصوصاً في مناطق الجنوب حيث باتت النزاعات مصدر تهديد للحياة الاجتماعية مضافاً إليها هجرة التلاميذ بعيداً عن مدارسهم وعدم القدرة على الوصول إليها خوفا من القتل أو الاختطاف.

كان مصطفى ذو العشرين عاماً طالباً مجداً من المتفوقين بين أقرانه حتى وصل الى مرحلة الجامعة، وبسبب نزاع عشائري بين عشيرته وعشيرة أخرى كان لمنزله نصيب بين عشرات المنازل التي تم حرقها وأخرى تم تهجير سكانها إلى مناطق اخرى، فترتب على ذلك تركه الجامعة بعد أن صار حبيس الدار خوفا من تعرضه للقتل كما حدث مع أحد اقربائه الذي قُتل اثناء العودة من العمل.

يقول مصطفى: “لا أريد لأمي وأبي أن يفجعا بفقدي فأنا وحيد لهما، لكن لدي أمل  بمواصلة تعليمي ولو بعد عشر سنوات”.

لا يختلف حال ميثم كثيراً عن حال مصطفى فهو في السادس الاعدادي ومرّ عليه عام جديد دون أن يحصل على ورقة نقل لمكان أكثر أمناً، فهو فرد من تلك العشائر المتنازعة فيما بينها، الأمر الذي يحول بينه وبين الوصول إلى المدرسة للحصول على أوراق النقل للالتحاق بمدرسة بعيدة، وليس هو آخر من يعاني هذا الظلم بل يشاركه الكثير من أقاربه وجيرانه.

معلم في مدرسة ميثم ذكر لنا أن إجراءات النقل تحتاج إلى طلب يتقدم به الطالب وبعد الموافقة يقوم الطالب بنقل أوراقه إلى المدرسة الجديدة. 

قوانين غير مطبقة

حيدر السعدي مستشار المحافظ لشؤون المواطنين يؤكد كلام كلٍ من مصطفى وميثم بعد أن نسب التسرب خلال هذا العام لأسباب متعددة منها النزاعات العشائرية التي باتت تهدد الكوادر التدريسية فضلا عن الطلاب.

ووفقاً لقانون إلزامية التعليم لعام 1976، فإن المدارس مسؤولة قانوناً عن إجراء المسح السكاني للمناطق المحيطة بها بالتعاون مع الجهاز المركزي للإحصاء ومديرية الأحوال المدنية، لحصر الأطفال الذين هم في السن القانونية للالتحاق بالمدرسة وإلزام أولياء أمورهم بتسجيلهم.

يوضح الحقوقي مهند الكناني أن قانون إلزامية التعليم قد حجم نسبياً من حالات التسرب من المدرسة، “إذ تقوم إدارات المدارس بحصر حالات ممن تخلف عن التسجيل، واستدعاء أولياء أمور الأطفال وإقناعهم بضرورة تسجيلهم، وبخلافه، فإن ولي الأمر معرض لدفع غرامة أو مواجهة الحبس لمدة لا تزيد على شهر واحد، ولا تقل عن أسبوع، وهذا يعتبر إجراء رادعاً بقوة القانون لكل حالات تقصير ولي الأمر عن تسجيل ولده “.

ويرى الكناني أن تطبيق فقرة القانون التي يعاقب عليها ولي الامر ممن تخلف عن تسجيل ابنه في المدرسة قد اختفت من حياة العراقيين فالقانون بإجراءاته الرادعة لم يعد يطبق اليوم، فغابت الإجراءات التي كانت تقوم بها المدارس ومؤسسات الدولة لإحصاء الأطفال الذين يحق لهم التسجيل في المدرسة وفقاً لسنهم القانونية. 

“هذا التراخي في تطبيق هذا القانون وإجراءاته الرادعة ترك موضوع التحاق الأطفال بالمدرسة لولي الأمر، فإن لم يفعل فلا عقاب قانونياً عليه، وأدى ذلك إلى زيادة نسبة الأمية وتسرب التلاميذ من المدارس”، يعلق الكناني.

ويحمّل هذا الحقوقي وزارة التربية مسؤولية الإخلال بتطبيق القانون، “وزارة التربية هي المسؤولة قانوناً أمام القضاء والمجتمع في إخلالها بتطبيق وتنفيذ هذا القانون، مع العلم أن عدم تطبيق القوانين يعد جريمة بموجب المادة 329 من قانون العقوبات العراقي رقم 111 لسنة 1969”.

عدد الإناث ضعف الذكور 

يشير خبراء تربويون التقتهم المنصة إلى أن تسرب معظم الأطفال من المرحلة الابتدائية يعود إلى المستوى الثقافي للأب والأم اللذان يكتفيان بأن يتعلم أبنائهما القراءة والكتابة فقط دون الحصول على شهادة تعليمية عالية، وايضا المستوى الاقتصادي من ناحية دفع الأطفال نحو سوق العمل لاعالة الأسرة سواء كان في الزراعة او الاعمال الحرة. 

أما في المرحلة الثانوية والمتوسطة فيضاف لذلك العامل الاجتماعي وهو زواج الفتيات المبكر. وغالباً ما يزداد التسرب في المناطق الشعبية أكثر منها في المناطق الحضرية، ويقل في الريف نسبة الى المدينة. 

منى عيدان مديرة مدرسة في الناصرية تقول للمنصة إن “النسبة الأعلى للتلاميذ المنتظمين هي من الصفوف الابتدائية بحكم قناعة غالبية العوائل بأن الشهادة الابتدائية كافية للتعليم خصوصاً للإناث، لتبدأ ظاهرة التسرب بالازدياد في المرحلة المتوسطة والإعدادية”. وتضيف عيدان أنه “في المرحلة المتوسطة والإعدادية تبدأ نسبة التسرب من الدراسة بالتصاعد ولا سيما للإناث”. 

وبحسب تقارير يونيسكو، تبلغ نسبة تسرب الإناث 11.4 في المئة وهي تقريباً ضعف نسبة الذكور المتسربين التي تبلغ حالياً  5.4 في المئة.

مدارس خارج الخدمة

علي الناشي وهو مسؤول منظمة التواصل والاخاء الانسانية، صرح أن المنظمة رصدت تسربَ أعداد كبيرة من التلاميذ في المرحلتين المتوسطة والاعدادية ليبلغ عام 2023 أكثر من 15 ألف تلميذ متسرب من كلا الجنسين. 

وتركّز التسرب سنة 2023 في مركز المدينة نتيجة البطالة والفقر والتفكك الأسري والاكتظاظ الكبير في المدارس، إذ يعاني العديد من المدارس من ازدواجية الدوام بل أن البناية الواحدة تتعاقب عليها ثلاث مدارس أحياناً، وهناك مدارس طينية وقصبية وكرفانية، فضلاً عن خروج عدد من المباني عن الخدمة بسبب تلكؤ أعمال الترميم.

وفي آخر إحصائية أعلنها الجهاز المركزي للإحصاء لعام 2019-2020، ضمت محافظة ذي قار 180 بناية مدرسية حكومية للتعليم المتوسط والإعدادي، منها 101 بناية تضم كل بناية مدرستين، و34 بناية تضم كل بناية 3 مدارس و45 بناية تضم كل بناية مدرسة واحدة، وعادة ما تكون الأخيرة في المناطق الريفية لقلة عدد تلامذتها، ومن هذا العدد الإجمالي ان 72 بناية بحاجة الى ترميم. وبحسب الإحصائية نفسها بلغ عدد التلاميذ الموجودين في المدارس أكثر من 207031 طالب موزعين على 5454 قاعة دراسية، اي بمعدل 38 طالب داخل القاعة الواحدة. 

أما عدد الابنية المدرسية الابتدائي 944 تضم 1354 مدرسة وبلغ عدد الطلبة فيها 416673 موزعين على 12400 قاعة دراسية، أي بواقع 34 طالب في القاعة الواحدة.

وتبوأ العراق مراتب عالمية في جودة التعليم ومحو الأمية خلال سبعينيات القرن الماضي الا ان هذه المراتب تراجعت مؤخرا وحل العراق ضمن أكثر البلدان التي تعاني من ارتفاع الأمية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى