أطفال في معامل الطابوق: صرخات مكتومة تحت أكوام الطين

فاطمة كريم _بغداد

وسط دخان كثيف ورائحة طين تملأ المكان يقف عبدالله ذو العشر أعوام  تحت اشعة الشمس الحارقة يحمل اطواب الطابوق والى جانبه حماره يجرّ أكوام الطابوق.

يسكن عبدالله حسن منطقة النهروان الواقعة شرقي بغداد حيث تكثر معامل انتاج الطابوق التي تبنى به المنازل. منذ كان في السادسة من عمره وجد عبدالله نفسه يعمل مع عائلته في هذه المعامل، ورغم قسوة العيش إلا أن أحلامه ما زالت بريئة، فهو لم يعش حياة كريمة قط.  يتحدث للمنصة قائلاً: “أعمل مع اخي واختي وهما أكبر مني سناً، لكن حلمي ان اتخلص من هذا العمل، وأن امتلك هاتفاً خاص بي”. 

ولد مئات الأطفال عنا بين المعامل وسط والاتربة والنفايات، تركوا دراستهم وعملوا في أماكن اشبه بالفرن، يرافقون أهلهم ساعات طويلة للحصول على مردود زهيد دون ضمانات أو حقوق تقيهم من الملوثات البيئية أو تحميهم من قسوة العمل وصعوبته. 

يقول عبدالله إنه يحصل على 115 ألف دينار عراقي مقابل العمل لأكثر من عشرة ساعات يومياً من أجل مساعدة عائلته، ويضيف “أنا وعائلتي اضطررنا للانتقال من إحدى المحافظات الجنوبية والعمل هنا وهو ما دفعني لترك الدراسة” ويضيف: “ليس أنا فقط بل كل من يعمل هنا لم يحظ بالتعليم”.

حسن كاطع والد عبدالله يتحدث عن معاناته في العمل في ظل الظروف القاسية، يقول “الهواء هنا يجرح الرئة، التلوث كبير جدا بجميع انواعه”.

ويكمل: “نعمل ليل ونهارا في سبيل توفير احتياجاتنا، والكثير يلومونني بسبب زج اولادي في هذه الاعمال لكننا نحتاج اولادنا ليكونوا عونا لنا”، ويستردك: “لو كان لي عمل كريم لما عاشت عائلتي في مثل هكذا ظروف”.

بسبب حرارة الجو وخصوصاً في فصل الصيف، يختلف توقيت العمل في النهروان، إذ يبدأ العمل داخل المعامل عند الساعة الثانية عشرة منتصف الليل وينتهي عند الساعة العاشرة صباحاً، وذلك في محاولة لتجنب أشعة الشمس.

يقول حسن: “لدينا أشبه بالتدرج الوظيفي، إذ يتم توزيع العمل حسب عمر الشخص. على سبيل المثال، الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين خمس وثماني سنوات يُطلق عليهم مصطلح ‘السواقة’، أي السواقين الذين يركبون عربة الحمار وينقلون أكوام الطابوق. ومن بعدها يأتي ‘المعبايجيه’، وهم الذين يملئون العربات بالطابوق، وغيرها من الألقاب التي تميز كل طفل عن الآخر”.

عشرات الأطفال مثل عبد الله يمكن العثور عليهم في النهروان من مختلف المحافظات ومختلف الأعمار، يمارسون أعمالاً لا تتناسب مع ضآلة أجسادهم وأعمارهم. هؤلاء الأطفال لا يمتلكون حق الاعتراض على واقعهم وظروفهم الأسرية، لكن بعضهم يمتلك الإرادة والطموح لتغيير واقعه مستقبلاً، ومنهم عبد الله.

علي، أحد أصدقاء عبد الله وفي نفس عمره، كان يمر بعربته الحديدية المحملة بأكوام الطابوق التي تزن أضعاف وزنه. وضع قطعة من القماش على مقبض العربة لتفادي سخونتها، متجهاً إلى شقيقته زهرة التي تصغره بسنة لنقل الطابوق إلى المحرقة، وهي آخر عملية في صناعة الطابوق.أخذ بيديه قنينة المياه ليروي شفاه زهرة التي جفت من صعوبة العمل، ومسح على رأسها مهوناً عليها.

من ينظر إلى هؤلاء الأطفال يرى أحلاماً كبيرة وعيوناً بريئة وواقعاً مريراً. زهرة، التي أزهرت وسط أكوام الرمال، تعمل مع أخيها وهي فخورة بعملها رغم قساوته، يغطي الغبار جسدها بينما تقول: “حلمي أن أعيش مع والدي وإخواني في بيت آمن بعيداً عن هذا المكان. لدي يقين كبير أنني سوف أحقق ما أريد يوماً ما مع عائلتي”.

اتسعت ظاهرة عمالة الأطفال خلال العقد الماضي في العراق بشكل كبير، ويرجع نقابيون تفشي هذه الظاهرة إلى الظروف الاقتصادية والأمنية التي عاشتها البلاد، بالإضافة إلى قطاع العمل غير المنتظم، رغم القوانين الصارمة بمعاقبة المتسببين فيها.

تنص قوانين وزارة العمل والشؤون الاجتماعية في العراق على معاقبة المتسبب في تشغيل الأطفال بعقوبة تتراوح بين “الغرامة المالية وإيقاف التصريح لرب العمل”، أو حتى إيقاف النشاط. وفي قانون الاتجار بالبشر، يُعاقب من يستغل شخصًا لا يعي حقوقه -كالأطفال- بالسجن أو الغرامة المالية.

دوليًا، تنص اتفاقية حقوق الطفل في المادة (32-1) على أن “تعترف الدول الأطراف بحق الأطفال في حمايتهم من الاستغلال الاقتصادي، ومن أداء أي عمل يُرجح أن يكون ضارًا بصحة الطفل أو بنموه البدني أو العقلي أو الروحي أو المعنوي أو الاجتماعي”.

يقول الخبير القانوني علي جابر التميمي إن قانون العمل 37 لعام 2015 الأخير، منع تشغيل الأطفال دون سن 15 عامًا، وحصر السماح بتشغيل من هم بين 15 و18 وفق شروط ورقابة وفي مهن محددة.

وقد حدّد القانون عقوبة على أصحاب العمل إذا تم خرق القانون، لكن التميمي يرى أن هذه القوانين “وُلدت شبه مشلولة في الأصل ولا تُطبَّق”.

فعلى الرغم من القوانين، فإن آلاف الأطفال ما زالوا منتشرين في الأسواق والأحياء الصناعية وعلى مكبات النفايات، يعملون في أقسى الظروف التي لا تراعي أي قانون، يسعون إلى توفير بضعة دنانير تعيل أسرهم من الفقر والجوع.

وتقدر المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق نسبة عمالة الأطفال بـ2%. ويبين عضو المفوضية علي البياتي أن عدد الأطفال العاملين في البلاد يصل إلى أكثر من 700 ألف طفل، في وقت تشير فيه منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسيف” (UNICEF) إلى أن ثلث أطفال العراق يمرون بظروف اقتصادية صعبة تضعهم أمام متطلبات العمل لإعانة عائلاتهم. كما تبين أن أطفال العراق يواجهون أعلى زيادة في معدلات الفقر إذ يوجد طفلان فقيران بين كل 5 أطفال.

وتقول لجنة الإنقاذ الدولية في العراق إن معدلات عمالة الأطفال مرتفعة بشكل كبير في البلاد، مما يسلب الأطفال حقهم في التعليم ويحرمهم من طفولتهم وحقوقهم الأساسية. وتضيف أن الأطفال يتعرضون لظروف غير آمنة، داعية الحكومة إلى إنفاذ قوانينها الخاصة برعاية وحماية الأطفال. يُذكر أن العراق من الدول الموقعة على اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل، وينص دستوره على إلزامية التعليم الابتدائي لجميع الأطفال، لكن الواقع يختلف كثيراً بالنسبة للأطفال في أنحاء البلاد.

رئيس الاتحاد العام لنقابات عمال العراق علي رحيم الساعدي بين في حديث للمنصة أن السبب في تفشي ظاهرة عمالة الأطفال يعود إلى كثرة الصراعات والحروب التي مرّت على البلاد، وانتشار البطالة، وإغلاق المعامل والشركات، ووجود قطاع عمل غير منظم وغير مسيطر عليه سواء نقابياً أو حكومياً.

يلقي الساعدي باللائمة على بعض الأحزاب والشخصيات السياسية النافذة في تدخلها بسوق العمل وابتعادها عن الرقابة وتفعيل القوانين ويشير إلى أن اللجان الثلاثية من النقابة ووزارة العمل واتحاد الصناعات “لا تلعب دورها بالمستوى المطلوب” ولا تغطي كل مرافق العمل، موضحاً أن ممثليها يسعون قدر الإمكان للوصول إلى أطراف المدن.

عبدالله، الطفل الذي يعمل في النهروان، يطمح أن يصبح لاعب كرة قدم مستقبلاً، يسرق بعض الوقت ليتدرب مع أصدقائه ممن يقطنون معه في المكان ذاته، يشكلون فرقًا صغيرة يسترجعون من خلالها طفولتهم التي سرقتها الحياة.

بابتسامة صغيرة وملامح وجه قد خذلتها الحياة، يقول عبدالله: “سأصبح لاعباً كبيراً يوما ما وأظهر من خلال شاشات الهاتف الذي طالما حلمت بشرائه”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى