مبادرة “الصفاء التطوعي”: بصمة أمل لأطفال التوحد في ذي قار
ذي قار- مرتضى الحدود
في قاعة واسعة تضج بالأعمال الفنية يجتمع شباب متحمسون يتبادلون الأحاديث ويتعاملون بصبر مع ردود فعل الأطفال المصابين بمرض التوحد. أحدهم يجلس متأملاً في وجوه الأطفال، محاولاً لفت أنظارهم ببطاقات ملونة تتراقص بين أصابعه، فيما يحرك آخر شفتيه برفق كي يتقن الطفل الجالس أمامه مخارج الحروف.
هذه ليست مجرد مشاهد عابرة، بل جزء من مبادرة يتحمل أعباءها ثمانية شباب من مدينة سوق الشيوخ جنوب شرق ذي قار، بدأت حكايتهم بفكرة بسيطة.
حلم راودهم في ليالٍ طويلة، يتمنون من خلاله مساعدة العائلات التي تواجه صعوبات في علاج أطفالهم من مرض التوحد، فكان هدفهم أن يوفروا بيئة دافئة ومناسبة لتدريب هؤلاء الأطفال، يفتحون بها أبواب الأمل ويرسمون بها مستقبلاً لهم، فأطلقوا على أنفسهم اسم “الصفاء التطوعي”.
هاني طالب، رئيس الفريق التطوعي، يجلس في إحدى القاعات، ومن حوله أطفال مرضى التوحد يخضعون للتدريب، والضجيج يملأ المكان. يتحدث للمنصة عن بدايات فكرة عمل الفريق، ففي إحدى الأمسيات التي تجمعه مع رفاقه بشكل يومي تقريباً، قدحت في ذهنهم فكرة مساعدة عوائل مرضى التوحد نتيجة تحملهم أعباء السفر إلى مراكز متخصصة في مركز المحافظة.
هنا أصبح الحديث يأخذ منحى جديًا حول كيفية تأسيس الفريق وطرق المعالجة، خصوصًا أن من بين المجموعة متخصصون في تدريب مرضى التوحد، فانطلق الفريق في أولى خطواته في بداية كانون الثاني 2024.
بدأ هاني بإكمال أوراق هذا الفريق التطوعي ليضفي عليه الصفة الرسمية ويسجله لدى دائرة الشباب والرياضة، مستعيناً بمواقع التواصل الاجتماعي للتواصل مع العائلات التي ترغب في تأهيل أبنائها المرضى. تلقوا رسائل واتصالات محدودة، وبلغ عدد المرضى آنذاك 8 أطفال، وبعد مدة ليست بالقليلة ارتفع العدد إلى 15 طفلاً وهكذا.
حمل الفريق اسم “الصفاء التطوعي”، والذي يعكس الصدق مع الآخرين بحسب هاني الذي كان يبحث عن مقر للأنشطة، فتمكن من خلال أحد المتبرعين من الاستعانة بـ”حسينية” لتكون مكاناً ملائماً للتدريب يومي الأربعاء والخميس خلال فترة العصر، ثم أكمل الفريق متسلزمات القاعة من الأدوات والألعاب كي تعينهم على أداء المهمة.
يكمل هاني حديثه قائلاً إن عمل الفريق توسع، لتقدم لهم دائرة منتدى الشباب قاعاتها التي كانت أكثر اتساعاً ووفرة بالخدمات. وبلغ عدد الأطفال الذين يخضعون للعلاج بعد مرور ستة أشهر أكثر من 50 طفلاً، ومن المتوقع أن يزداد العدد أكثر من ذلك.
مصطفى باقر، أحد أعضاء الفريق المدرب، يكشف عن طموح الفريق في تطوير المبادرة وتوسيع مداها لإنشاء مركز تخصصي لرعاية الأطفال المصابين بهذا المرض، شارحاً أن المبادرة لم تأتِ من فراغ، بل اعتمدت على واقع الحال وتزايد أعداد حالات التوحد في المدينة.
يسجل أولياء الأمور تحسناً واضحاً لدى أبنائهم. حامد ماجد، والد أمر أحد الأطفال الذين يتلقون الرعاية، يشير إلى التحسن في مستوى النطق ومخارج الحروف لدى طفله بعد معاناة كبيرة، وهذا بفضل الجهود المبذولة من أعضاء الفريق.
الدكتور نعمه جلود التميمي، مدير مركز ذي قار الحكومي للمصابين باضطرابات التوحد، يوضح أن العوامل المؤثرة في الإصابة بالتوحد متعددة، منها عوامل وراثية تلعب الجينات دوراً فيها بنسبة 15%، إضافة إلى العوامل البيئية مثل نقص الوزن عند الولادة أو ولادة لأبوين كبيري السن.
لكن لا توجد أدلة على تسبب هذه العوامل بالتوحد لكنها بحسب أبحاث عدة ترفع من خطورة الإصابة بالتوحد. ويشير التميمي إلى أنه “لم يثبت علمياً أن استخدام أجهزة الهاتف الذكية للأطفال يسبب التوحد، لكنها تؤثر سلباً على تفاعل الطفل مع محيطه، مما يعيق مهارات التواصل لديه”.
بلغ عدد الحالات المسجلة باضطرابات التوحد في مركز ذي قار الحكومي منذ افتتاحه في عام 2014 وحتى الآن 2460 حالة. وتشير التقديرات العالمية إلى أن نسبة الإصابة بالتوحد تتراوح بين 1% و2%، أي أن من بين كل 100 طفل يصاب طفل واحد. ويواجه هؤلاء صعوبات في النطق أو فرطاً في الحركة أو قلقاً أو صرعاً، مما يتطلب علاجاً طبياً متخصصاً.
وفي ظل تزايد أعداد الإصابات، تحتاج عائلات أطفال التوحد دعماً نفسياً واجتماعياً لمواجهة التحديات واستيعاب المشاكل التي تواجههم.
وتوفر مدارس المحافظة صفوفاً خاصة لذوي الاحتياجات الخاصة، منهم مرضى التوحد، وقد بلغ عددهم 658 تلميذاً للعام الدراسي 2022-2023، موزعين على 68 مدرسة. لكن نقيب معلميّ ذي قار، حسن السعيدي، يشير إلى أن تواجد هؤلاء التلاميذ في المدارس الاعتيادية ليس صحياً لهم، فهم بحاجة إلى اهتمام خاص ومعلمين ومدرسين خضعوا لتدريب خاص.
يأمل رئيس الفريق، هاني طالب، في إنشاء مركز متخصص حكومي يرعى كل المصابين ويشرف عليه أطباء ومدربون ذوو قدرات عالية، للحد من تفاقم هذه الإصابات ومعالجتها عند اكتشافها.