من التمثيل إلى الخياطة: رحلة سيدة عراقية بين فنين

في سوق باب المعظم الشعبي تروي خيوط الإبرة رحلة فنانة عراقية انتقلت من أضواء المسارح وشاشات التلفاز إلى ماكينة الخياطة، إنها قصة منى الصفار، الممثلة العراقية التي جسدت أدواراً مميزة في مسلسلات عراقية معروفة مثل “بيت الطين” الذي لعبت فيه دور “فتحية” لكن الحياة قادتها إلى طريق مختلف لاحقا.
ولدت الفنانة العراقية منى الصفار في بغداد وهي في ربيعها الثامن والاربعين واكملت دراستها في معهد الفنون الجميلة، وتميزت بين اقرانها بموهبتها التي فتحت لها ابوابا للمشاركة في الدراما العراقية، تقول منى “منذ كنت طالبة شاركت في مشاهد من مسلسلات عدة، لكن شهرتي زادت في مسلسل بيت الطين وبرج العقرب والاصمعي وغيرها الكثير من المسرحيات”.
اكملت منى مسيرتها تحت اضواء المسارح وامام الكاميرات رغم العديد من الصعاب التي واجهتها آنذاك لكن شغفها بالظهور امام الشاشة الصغيرة كان اكبر من المسرح ويمدها بالقوة.
وفي لحظة من لحظات الزمن اجبرت منى على ترك التمثيل رغما عنها، بعد خلافات مع دائرة السينما والمسرح استمرت سنوات عدة وانتهت عام ٢٠٠٦ بعد قطع راتبها وفصلها من العمل وتقول “بعد حصولي على جائزة افضل فنانة واعدة في العراق سنة ١٩٩٥، ينتهي الامر بفصلي وتوقيف راتبي من قبل دائرة السينما والمسرح فتغير حلمي من الفن الى الحصول على ماكينة خياطة جديدة”.
بعد محاولات عديدة للعودة الى عالم التمثيل وحل الخلافات مع الجهات المعنية ادركت منى انها يتوجب عليها الاهتمام بموهبتها في عالم الخياطة فهي فن من نوع آخر كما انها بحاجة الى كسب رزقها.
ليست منى وحدها التي عانت في عالم الفن فقد شهدت الدراما العراقية أزمات متعددة ابان الحصار الاقتصادي في تسعينات القرن الماضي وبداية القرن الحالي. وبعد عام 2003 كانت هناك آمال عريضة بإمكانية تجديد الشاشة الدرامية لكن تحديات أخرى ظهرت في الساحة ناتجة عن الأوضاع السياسية والأمنية المضطربة والانقسامات السياسية وصعوبة الإنتاج، بالإضافة إلى صعوبة جذب الاستثمارات الضرورية للقطاع الفني فضلا عن نقص الكوادر الفنية قياسا بالدراما العربية في سوق المنافسة فكانت منى وكثيرات من زميلاتها لا يجدن فرصا مناسبة للعودة.
تجلس منى اليوم وسط مملكتها الصغيرة واضعة امامها صديقتها الوفية ماكينة الخياطة وحولها اقمشة متنوعة الأنواع والالوان تتعامل معها بمهارة وتشكلها كيفما تريد فهي تمرر قطعة القماش من تحت ابرة الخياطة تاركة خلفها خطوطا متعرجة او مستقيمة كأنها تمثل طريق حياتها بجميع فصولها فيما يرتفع صوت طقطقة الماكينة عاليا.
نظرت فنانة الامس وخياطة اليوم الى الجانب الايجابي في مواهبها المتعددة، واستطاعت ان تفتح محلا لها في منطقة باب المعظم ببغداد لخياطة الازياء الرجالية والنسائية، فأبدعت في مجالها الجديد وبات لديها الكثير من الزبائن، تقول منى “خلال عملي اصبحت تأتيني طلبات لخياطة ازياء خاصة بالمسرح فبعدما كنت ارتديها أصبحت اخيطها، فقط، يحزنني الامر قليلا لكن ابداعي في مجال الخياطة وكسب مالي بيدي يغنيني عن كل شيء”.
يشكل سوق باب المعظم حيث يقع محل منى جزء أصيلاً من تاريخ بغداد وثقافتها واكتسب اسمه من احدى بوابات بغداد الدائرية الأربع وهو يشتهر بانتشار الباعة والمسقوفات الى جانب المحال التجارية ومكاتب الطباعة والاستنساخ لكونه محاط بعدد من الكليات والجامعات العريقة.
هناء محمد او ” ام أكرم” سيدة ثلاثينية من زبائن منى، وهي موظفة في احدى الدوائر في باب المعظم، وتقول “اعرف منى منذ زمن طويل من خلال ظهورها في مسلسل بيت الطين، وحينما شاهدتها تعمل على ماكنة الخياطة، لم اصدق ولكن بعد سؤالها تأكدت انها هي إنها افضل خياطة في السوق على الإطلاق”.
برعت منى في خياطة الملابس لجميع الاعمار ومختلف الاجناس ولم تقتصر على اعداد ملابس محددة فاصبح زبائنها متنوعون وعلى سبيل المثال ام اكرم لا تخيط ملابسها فقط بل ملابس أولادها، وتقول” الخياطة افضل من الجاهز فهي تمنحنا فرصة اختيار اللون ونوع القماش والموديل ومنى دائما ما تخيط لي ولأولادي ثياب جميلة وبجودة لا تقل عن تلك التي تعرض في الاسواق”.
لم تبدع منى في الخياطة فقط انما لديها مواهب اخرى استطاعت ان تعمل بها الى جانب الخياطة حيث مارست هوايتها في نحت المجسمات المختلفة التي عبرت من خلالها عن قضايا اجتماعية وسياسية عدة.
شغف اعادة تدوير النفايات وتحويلها الى اعمال فنية ومجسمات مختلفة موهبة أخرى تتمتع بها منى وتقول “اذهب كل يوم جمعة الى القشلة واقوم بنحت مجسمات عدة كذلك اعيد تدوير النفايات واشارك في معارض عدة، فالحياة لن تتوقف”.
قصة منى الصفار مثالاً على قدرة الإنسان على التكيف مع الظروف، وتحويل التحديات إلى فرص للإبداع، فهي لم تستسلم لليأس ووجدت طرقاً جديدة لمشاركة مواهبها مع العالم، وهي تُلهمنا درساً هاماً عن أهمية المثابرة والإيمان بالنفس، فالفنّ لا يقتصر على المسارح وشاشات التلفزيون، بل يمكن العثور عليه في زوايا أخرى داخل حياتنا.
أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)