فن زجاجات الصبر.. جراحة دقيقة داخل زجاجة

ذي قار- مرتضى الحدود

في زاوية من غرفته المتواضعة يسحر محمد الناصري، الشاب العراقي البالغ من العمر 24 عامًا، أصدقاءه ومقربيه بمهارة فائقة وهو يمسك بأدوات دقيقة ويُدخل أعمدة حديدية قصيرة عبر فتحة ضيقة في قنينة زجاجية لا يتجاوز قطرها 3 سم.

يكمل محمد تركيب لعبة سيارة صغيرة داخل الزجاجة وكأنه يعمل في محل لصيانة المركبات، لكن بدلاً من المفاتيح والأدوات الضخمة، يستخدم أدوات دقيقة وصبرًا لا مثيل له. هذا هو لون جديد من الفن في العراق يطمح محمد لإشاعته بين الشباب وهو “فن زجاجات الصبر”.

لا يُخفي محمد سعادته وهو يركّب تلك القطع المعدنية والبلاستيكية والزجاجية، فهو يقضي قرابة الأربع إلى ست ساعات من وقته في سبيل إنجاز قطعة فنية جديدة. ورغم أنه يعود من عمله المضني في صناعة الأدوات الكهربائية، إلا أنه يجد راحته في هوايته هذه.

يقول الناصري، وهو يجلس خلف منضدة يعمل على تركيب إحدى القطع، إن شغفه بهذا الفن بدأ منذ عام 2019 عندما كان يتصفح الانترنيت ليرى يوتيوبر أمريكي محترف في صناعة فن “زجاجات الصبر”.

أثار هذا المشهد شغفه فتابع طريقة العمل لتركيب سفينة شراعية داخل قنينة. ومنذ تلك اللحظة، بدأ محمد بإمضاء ساعات طويلة كل يوم لإنجاز قطعة واحدة.

“لم تثنيني محاولات الفشل المتكررة بل جعلت لدي دافعاً أقوى نحو الإنجاز: يقول الشاب الذي استطاع آنذاك إنجاز سلم خشبي داخل قنينة زجاجية واستغرق في عمله هذا قرابة 15 يومًا بمعدل خمس ساعات يوميًا.

مع مرور الوقت، أتقن محمد هذا الفن وأصبح قادرًا على إدخال مجسّمات أكثر تعقيدًا، مثل السيارات البلاستيكية والصور، وذلك خلال وقت أقصر.

يُشبّه محمد عمله في تركيب هذه المجسّمات بعمليات جراحية دقيقة، إذ يتطلب الأمر صبرًا ودقة لا مثيل لهما، وأصبح هذا الفن أشبه بالتحفة الفنية التي تجذب الأنظار.

شارك محمد في العديد من الفعاليات، مثل بازار الناصرية وفي شارع الثقافة ومعرض بغداد الدولي للكتاب. وفتحت له هذه المشاركات بعض الأفاق للتواصل مع شباب موهوبين من فنون أخرى، كما يُشارك أعماله على مواقع التواصل الاجتماعي، مما يُسهم في الترويج لفنه وجذب المزيد من الزبائن.

في حديث مع المنصة، أكّد مسؤول شارع الثقافة في الناصرية، هيثم عبد الخضر، على أهمية استيعاب جميع الطاقات والمواهب الفنية والثقافية في هذا الشارع. فهو تأسس لدعم القدرات التي يتمتع بها الشباب من أمثال الفنان محمد الناصري وغيره، فضلاً عن الكتاب والأدباء.

“نعمل على إتاحة مساحة لجميع الفنانين، من أصحاب الكتب إلى المصورين والرسامين وصنّاع المجسّمات، من أمثال محمد الناصري، مما يُسهم في تنوع الفعاليات والأنشطة التي تُقام فيه” يؤكد الخضر.

يسرد محمد أصعب الأعمال وأكثرها تعقيدًا خلال تجربته في هذا الفن، وهو تركيب سفينة شراعية يبلغ طولها 23 سم وبارتفاع 20 سم.

“لم يكن تركيب السفينة داخل القنينة مهمة سهلة، بل تطلبت مني مهارة ودقة ووقت طويل، إذ استغرق إنجازها 28 يومًا بمعدل 4 إلى 6 ساعات يوميًا”.

يُرجّح محمد أن يكون فن زجاجات الصبر قد نشأ في القرن السادس عشر، وذلك على يد عمال مناجم التعدين الذين كانوا يُعانون من ظروف عمل قاسية وظلم من قبل أرباب العمل.

كان عمال المناجم يُصمّمون مجسّماتٍ داخل قناني زجاجية كنوع من التعبير عن غضبهم وعدم رضاهم، دون أن يُعرّضوا أنفسهم للفصل من العمل. وكانوا يُقدّمون هذه المجسّمات كهدايا لأقاربهم وأصدقائهم، كنوع من الرسائل التي تُعبّر عن معاناتهم واستغلالهم. مع مرور الوقت، تطور هذا الفن ليصبح وسيلة للتعبير عن الإبداع والجمال، بدلاً من كونه رسائل احتجاجٍ صامتة.

تلقى محمد بعض الطلبات من قبل الراغبين في شراء هذه القطع الفنية، وعمد إلى تخفيض أسعارها. على الرغم من السعر المنخفض الذي يقدره محمد قياسًا بالجهد المبذول، إلا أن البعض يجده مرتفعًا، حيث تبلغ قيمة القطعة الواحدة 25 ألف دينار عراقي، ما يعادل 16 دولارًا أمريكيًا تقريبًا.

يُدرك محمد صعوبة بيع أعماله بسهولة لكنه لا ييأس، ويحلم بامتلاك ورشة خاصة به تضم جميع أدواته، ليتفرغ لتطوير هذا الفن والتعريف به، مؤمنًا بأن “فن تحويل زجاجات الصبر إلى تحف فنية” هو لون جديد يجب أن يدخل ساحة الفنون في العراق.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى