طفل يحارب السرطان بفرشاة الرسم والألوان
البصرة- نغم مكي
في قاعة مستشفى الطفل التخصصي بمدينة البصرة، حيث يواجه الأطفال مرضى السرطان تحدياتهم اليومية، معرض صغير بألوان ولوحات تجسد أفكار ومخيلة الطفل يوسف، البالغ من العمر 11 عاماً.
يشير يوسف إلى إحدى لوحاته التي رسم فيها شخصاً تعلو على وجهه علامات الخوف، معانقاً نفسه بملامح تسودها الحزن والقلق. وعندما سأله أحد الحضور عن معنى اللوحة، أجاب يوسف قائلاً: “إنها تمثل الخوف من نظرات الناس وردة فعلهم تجاه المصابين بالسرطان وابتعادهم عنهم عند سماعهم بهذا المرض”.
يقول والد يوسف، وسام عباس: “قبل سنتين، عانى يوسف فجأة من ارتفاع درجة حرارته، وتضخم بطنه، وتقيؤ مستمر، وامتنع عن الأكل. وعند تشخيصه، اكتشف الأطباء أنه مصاب بسرطان الدم اللمفاوي بنسبة 93%، وتضخم بالكبد والطحال”.
يضيف وسام: “العلاج الكيميائي والعلاج الإشعاعي يشكلان جزءاً كبيراً من روتين حياته، وقد أدى هذا العلاج المكثف إلى تساقط شعر رأسه وحاجبيه، وألحق به آلاماً لا تُحتمل. لكن يوسف وجد ملاذاً في الرسم؛ يجلس ساعات طويلة في سريره بالمستشفى، مغموراً في عالمه الخاص الذي يملأه بالألوان والحيوية”.
في مراحل مبكرة من عمر يوسف، اكتشفت عائلته موهبته في الرسم وعلاقته الخاصة مع الألوان. يقول وسام: “فوجئت عندما رأيت ابني يمسك الأقلام الملونة ويخط رسمته الأولى على ظهر ورقة من أحد الكتب. كان يتصرف وكأنه رسام محترف يعرف تماماً ما يريد. فرحت العائلة كثيراً، ولشدة اعتزازي بموهبته دعمته وشجعته على تعلم فن الرسم وإتقانه”.
في سن الخامسة، كان يوسف يرسم بتفاصيل دقيقة وألوان زاهية. لم يكن يرسم فقط، بل كان يروي قصصاً من خلال أعماله. تحمس الجميع لموهبته، خاصة معلمه الذي طور من مهاراته وأدخله في دروس لتشجيعه.
لم يمضِ وقت طويل حتى بدأ الجميع يتفاعلون مع رسوم يوسف ويشجعون موهبته، من مدير المدرسة والمعلمين إلى أصدقائه، وصولاً إلى إقامة معرض خاص له في المدرسة.
استخدم يوسف فرشاة الرسم والألوان كوسيلة لمواجهة ألمه، وجسدت لوحاته شعوره وصراعه مع المرض. ففي إحدى لوحاته، رسم طفلاً يرتدي قناعاً يغطي نصف وجهه ويخرج من رأسه دخان أسود. يوضح يوسف قائلاً: “إنها تمثل الدخان الأسود من الغاز المحترق”.
يوسف هو واحد من آلاف الأطفال الذين يعتقد الدكتور والخبير في جودة الهواء عادل النعيمي أنهم ضحايا لتلوث الهواء في البصرة وارتفاع معدلات السرطان بسبب انبعاثات المصانع وحرق الغاز والعوادم الناتجة عن وسائل النقل.
يوضح النعيمي: “المواد الكيميائية السامة في الهواء، مثل الجسيمات الدقيقة والملوثات الأخرى، قد تؤدي إلى تحفيز خلايا سرطانية. في البصرة، شهدنا زيادة ملحوظة في حالات السرطان، وهو ما يمكن أن يكون مرتبطًا بالتعرض الطويل الأمد لهذه الملوثات”.
يضيف النعيمي: “الأمراض التنفسية مثل الربو والتهاب الشعب الهوائية أصبحت أكثر شيوعاً. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤدي التعرض المستمر للملوثات إلى ضعف عام في الصحة وزيادة معدلات الأمراض المزمنة”. وأشار إلى أن العمليات الاستخراجية النفطية تعد الملوث الأكبر للهواء في محافظة البصرة، حيث تُحرق كميات كبيرة من الغاز المصاحب للوقود الأحفوري، مما يؤدي إلى انبعاث مركبات كيميائية خطيرة بتركيزات عالية، ترتبط بزيادة أعداد الإصابات بالأمراض السرطانية.
وفقًا لدراسة بحثية أجرتها جامعة ميسان في عام 2021، أظهرت أن محافظة البصرة تتصدر أعداد الإصابات بالسرطان بنسبة 76.3 لكل 100 ألف شخص في العام 2020. كما أظهرت إحصائيات أن البصرة سجلت ارتفاعاً ملحوظاً في عدد الإصابات بالسرطان بين عامي 2015 و2021.
يقول مهدي التميمي، مدير مكتب المفوضية العليا لحقوق الإنسان في محافظة البصرة: “إن 9 إلى 10 آلاف إصابة بالسرطان تحدث سنوياً في المحافظة، وهذه الأرقام يمكن أن تزيد خلال السنوات المقبلة إذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه”.
يحذر النعيمي من أن التلوث في البصرة ليس مجرد مشكلة بيئية بل هو قضية صحية تستدعي استجابة عاجلة. ويؤكد على ضرورة اتخاذ تدابير صارمة للحد من الانبعاثات والتلوث، وتحسين جودة الهواء من خلال تعزيز التشريعات البيئية وزيادة الوعي العام.
من جانبها، تبيّن إيمان صلاح، المختصة في الإرشاد النفسي والعلاج النفسي في مستشفى الطفل، أن العلاج النفسي جزء أساسي من رحلة علاج مرضى السرطان. وتقول: “الحالة النفسية للمريض تلعب دوراً كبيراً في نجاح العلاج. يجب أن يكون المريض في حالة نفسية جيدة بعيداً عن اليأس والإحباط”.
وتتحدث إيمان عن تجربتها مع طفلتها المريضة وتقول: “قمت بتهيئة الجو النفسي الصحي لها، فمرضى السرطان حساسون للغاية ويستشعرون الحب والمبالغة في التشجيع. وفي حالة يوسف، كان مفتاح العلاج هو تشجيعه على الرسم واستخدام موهبته للتعبير عن أفكاره وتفريغ مشاعره السلبية”.
وتؤكد إيمان أن الحالة النفسية للأهل تؤثر بشدة على علاج الطفل، وأن أي انفعالات أو إحباطات قد تنعكس سلباً على حالة المريض الصحية.
يقول الناشط الإنساني ومدير مؤسسة غيث الإحسان الإنسانية، حيدر جبار: “يوسف يمتلك موهبة فطرية، وقد تحولت لوحاته إلى مصدر إلهام لزملائه الأطفال. في لوحاته، يروي معركة الخير والشر بين السرطان والأمل في الشفاء”. هذه المؤسسة وبالتنسيق مع إدارة المستشفى قررت إقامة معرض صغير لرسوم يوسف، حيث تُعرض اللوحات ويتم بيعها في مزاد علني لدعم أطفال السرطان.
بعد انتهاء المعرض، يجلس يوسف على طاولة، يمسك بفرشاة الرسم وورقة بيضاء، وأمامه أصباغ التلوين. ينهمك في الرسم، ويكشف عن حلمه في المستقبل بأن يصبح مهندس نفط ورساماً عالمياً، ليجسد كل أفكاره في عالم الألوان.