بين جدران ورشة صغيرة.. علاء دلي يحيي روح الحضارة السومرية
ذي قار- مرتضى الحدود
في زاوية هادئة من سطح إحدى العمارات السكنية وسط الناصرية، ينغمس الشاب علاء دلي بالعمل في ورشته الصغيرة حيث يعمل باستخدام أدوات بسيطة على إحياء ملوك سومر وآشور صانعاً مجسمات فنية تخطف الأنظار وتثير الإعجاب.
منذ طفولته نما لدى علاء شغف لا يهدأ بالآثار متأثراً بنشأته في مدينة الناصرية التي تزخر بكنوز الحضارة السومرية، ” كانت حكايات تلك الحضارة العريقة تُروى لنا قتغذي خيالنا”، يقول للمنصة.
حلم الطفولة تحوّل لدى علاء إلى مشروع فني متميز بعد أن أسس ورشته الصغيرة التي تحتوي على مواد جبسية وصمغية، وأدوات حفر ونحت، يصنع علاء باستخدامها شخوص ملوك سومر وآشور، ويعيد بناء المدن الأثرية التي أصبحت اليوم مقصداً للسائحين، مستحضراً جمال تلك الحضارة البعيدة إلى عالمنا المعاصر.
بدأت حكاية علاء مع الفن في عام 2016 عندما قرر تحويل هوايته إلى مشروع حقيقي، فصنع اول عمل له وكان عبارة عن سفينة صغيرة من أعواد الخشب، لتكون البداية التي تطورت لاحقاً، خصوصاً بعد زيارته للأهوار. في تلك الفترة، كان العراق يسعى لإدراج الأهوار وآثار أور أريدو ضمن لائحة التراث العالمي، فانطلق علاء منذ ذلك الحين في البحث عبر مواقع الإنترنت عن الآثار والمجسمات وطرق النحت، متعمقاً في تاريخ الآشوريين والأكاديين الذين اشتهروا بهذا الفن، وقام بعدة محاولات لصنع المجسمات اعتماداً على المواد المتوفرة لديه.
يتابع علاء “في عام 2019، وأثناء متابعتي لصفحات الفيسبوك، وجدت إعلاناً لمتحف الناصرية الحضاري عن ورشة لتطوير فن النحت وصناعة المجسمات. شاركت في الورشة لأطور مهاراتي بشكل أكبر”.
يعد فن المصغرات في العراق أحد أبرز مظاهر الإبداع الفني، ويمثل تراثاً حضارياً غنياً يعود إلى آلاف السنين. يتميز هذا الفن بدقته وواقعيته إذ يقوم الفنانون بصنع نسخ مصغرة لأشياء حقيقية مما يعكس مهارة عالية وإتقاناً للتفاصيل.
وتشمل المصغرات بشكل عام المباني والمعالم الأثرية مثل المساجد وزقورة أور والحضر، إضافة إلى الأدوات المنزلية اليومية والمشاهد التي تعكس الحياة اليومية من الأسواق والشوارع وحتى الأشكال الحيوانية.
في عام 2020، أخذ علاء خطوة جديدة في مسيرته الفنية بإنشاء ورشة خاصة به مستخدماً مواد بسيطة مثل الطين والبورك، والقوالب الجاهزة للمجسمات. كانت هذه المهمة شاقة بالنسبة له من حيث توفير المكان والتكلفة وطريقة التسويق.
في البداية استخدم علاء سطح العمارة السكنية التي يعيش فيها مع أهله كموقع للورشة حتى عام 2021، وهي السنة التي شهدت تحولا إيجابيا في مسيرته عندما أعلنت منظمة الهجرة الدولية عن دعمها للمشاريع الصغيرة الفنية في ذي قار المتعلقة بالآثار والأهوار، فقدّم الشاب الناصري دراسة جدوى لمشروعه، وانطلق في عمله بعد حصوله على الدعم، مؤسساً ورشته بمساحة مناسبة لأدواته.
يرى علاء أن فن المصغرات “مرآة تعكس تاريخ البلاد وحضارتها، يسهم في جذب السياح وتعريفهم بطبيعة الثقافة المحلية، كما يبرز قدرات الفنانين على إتقان أعمالهم، ويشكل صورة للأجيال القادمة توضح ماذا تمثل هذه الشواخص الصغيرة وكيفية الاستفادة من هذا الفن”.
من بين المجسمات التي يعرضها في ورشته، يمكن مشاهدة لعبة قديمة تعود لأكثر من 4 آلاف سنة قبل الميلاد تشبه لعبة “الطاولي” الشهيرة استطاع علاء تسويقها وانتاج عشرات النسخ منها. تم اكتشاف هذه اللعبة، المعروفة بـ”لعبة أور الملكية” في مدينة أور الأثرية في المقبرة الملكية عام 1922 وتم نقل النسخة الأصلية إلى المتحف البريطاني.
واستخدم علاء الطابعة ثلاثية الأبعاد مع مواد مقواة لإنتاج نسخٍ من هذه اللعبة وبأسعار مناسبة. كما قدم ورقة تعريفية بطريقة لعبها وروابط لمواقع يمكن زيارتها للاطلاع على تفاصيلها.
لم يكتفِ علاء بابتكار مجسماته الفنية، بل تحول إلى سفير للحضارة السومرية في جميع أنحاء العراق. فمن البصرة إلى أربيل ومدن عراقية أخرى، يحمل على كتفه عشرات المجسمات، كل واحدة تحكي قصة وحقبة زمنية طواها الزمن، ليشارك بها في فعاليات ومؤتمرات ثقافية مختلفة.
وعلى الرغم من النجاح الذي حققه علاء، ليس فقط في العراق -إذ تمكن من إيصال نتاجه إلى 45 دولة عبر الجالية العراقية- يواجه هذا الشاب اليوم تحديات تجارية تهدد استمرارية حرفته. فالمنافسة الشرسة من المنتجات الصينية الرخيصة أصبحت تشكل تهديداً كبيراً لسوق المصغرات العراقية، التي تنتج بشكل يدوي.
يؤكد علاء أن المواد الخام التي يستخدمها في صناعة مجسماته عالية الجودة وتتطلب وقتاً وجهداً كبيرين، مما يرفع من تكلفة الإنتاج. وبالتالي، فإن الأرباح التي يحققها من بيع هذه المجسمات لا تكفي لتغطية التكاليف، في حين أن المجسمات الصينية المنتشرة في الأسواق تكون بأسعار زهيدة، مما يجعل من الصعب على الحرفي العراقي المنافسة.
الدكتور هيثم عبد الخضر، المشرف على شارع الثقافة في الناصرية، تحدث عن أهمية دعم الفنانين العراقيين من خلال المؤسسات الحكومية والتعاون من قبل المؤسسات الأهلية والتجارية عبر الترويج لهذه المنتجات، سواء من ناحية الصور أو النحت. وأكد أن “الربح ليس كل شيء، بل إن الاهتمام والرعاية والدعم للفنانين هي الأساس”، ووجه نداءً إلى الجهات المعنية لدعم الحرفيين العراقيين والحفاظ على التراث الثقافي وتشجيع المواطنين على شراء المنتجات المحلية.
من جانبه، أوضح علي عبد، مدير مركز الرواق للفنون في ذي قار، أن المركز يحاول من خلال توفير المساحات الفنية في المحافظة إبراز دور الفنانين في جميع المجالات، مثل علاء دلي وغيره، عبر إقامة البازارات أو المشاركة في فعاليات في محافظات أخرى. وأكد أنهم يعملون على دعم هذه الفئة الشبابية التي يمكن أن تحقق إبداعاً كبيراً في المستقبل.
بين الأصباغ والألوان وقطع الخشب والورق المقوى يجد علاء ملاذه الآمن داخل ورشته، تلك المملكة الصغيرة التي يحكمها بالخيال والإبداع، يبدو طوال الوقت سعيداً بمشروعه وبالرسالة التي يؤديها.
يقول “إن هذه الورشة وتلك المجسمات هي مشروعي في الحياة والمكان الذي أنتمي اليه.. قد تبدو المواد الفنية قاسية وقذرة، لكني أجد فيها سحراً لا يقاوم، وأجد في المجسمات الآشورية لغة فنية أتشارك بها مع كل العراقيين ومع كل المهتمين بالتاريخ العراقي”.