فندق الخيري تحفة معمارية وملاذ للسياسيين والمسافرين

ذي قار-مرتضى الحدود

بأسلوبه المعماري الفريد يقف فندق الخيري شاهداً على ذوق العمارة العراقية التي ظهرت في عشرينيات القرن الماضي والتي تستخدم الشناشيل الخشبية في التصميم، أما جدرانه الضخمة المتآكلة، وسقفه العالي المدعوم بالأعمدة الخشبية، فتحكي قصة صموده أمام تحديات الزمن، إذ لا يزال يحتفظ بجمال تصميمه الأصلي، وكأنه يهمس لنا بأسرار الماضي.

يقع هذا الفندق التراثي فريد في قضاء الرفاعي شمال الناصرية، يطل بذكرى الماضي الجميل كما يسميه رواد هذه المدينة فقد كان شاهداً على ازدهارها ومركزاً للحياة الاجتماعية فيها. ففي طابقه العلوي، الذي تحول اليوم إلى ذكرى، جلس كبار الزوار والتجار، وكان ملاذاً للمبعدين السياسيين.

يروي حفيد مشيد هذا المبنى يوسف حميد موحان الخير الله، أحد شيوخ عشائر الشويلات، للمنصة أن الشيخ موحان الخير الله أسس هذا الفندق عام 1928 ليكون محطة استراحة للتجار القادمين من المحافظات العراقية لشراء المحاصيل الزراعية التي كانت تزدهر في قضاء الرفاعي. وكان الفندق بمثابة نواة لتأسيس سوق تجاري حيوي، حيث يتلاقى البائعون والمشترون من مختلف المناطق.

وتم استقدام أبرع الحرفيين لتشييده من محافظة البصرة، المعروفة بمهارتها في البناء. وتم تصميم الفندق بشكل فريد مستوحى من الشناشيل البصرية القديمة، مما جعله تحفة معمارية فريدة من نوعها. 

ويضم الفندق 16 غرفة نوم مجهزة بأعلى مستوى من الراحة، بالإضافة إلى مجموعة من الحمامات الصحية التي تلبي احتياجات النزلاء.

أحد وجهاء القضاء، راغب رزيج العقابي، تحدث للمنصة وهو يقف أمام الفندق المتهالك، مشيراً إلى أنه أُنشئ ليكون مكاناً وملاذاً للمسافرين في الوقت الذي كانت المدينة مهتمة بالتجارة، فضلاً عن وجود الموظفين في الدوائر الحكومية من المحافظات الأخرى. ويعد أول مبنى يُشيد بالخرسانة الإسمنتية والهيكل الخشبي بهذا الطراز المعماري، وتمت تسميته بفندق الخيري.

ويكمل العقابي أن الكثير من السياسيين المبعدين من بغداد لجأوا إليه خلال حقبة الأحداث السياسية التي دارت بين القوميين واليساريين عام 1959، وقد شهد الفندق زيارة الملك فيصل الثاني أثناء زيارته للقضاء بدعوة من الشيخ موحان الخير الله، حيث قام بتفقد المدينة، وكان الفندق واحداً من الأماكن التي زارها واطلع عليها.

وكانت مدينة الرفاعي، التي تبعد عن مركز محافظة ذي قار 80 كيلو متر شمالاً، وبفضل موقعها الجغرافي ومواردها الزراعية الخصبة، مركزاً تجارياً هاماً في المنطقة. وكان من أشهر تجارها في ذلك الزمن الحاج عباس صالح الكرادي، الذي كان يمتهن تجارة الحبوب كالحنطة والشعير، ويقوم بتخزينها على جانبي نهر الغراف الذي يمر بالمدينة لغرض تجميعها وتصديرها خارج العراق. 

وبعد تشكيل أول حكومة وطنية عراقية وتنصيب فيصل بن الشريف حسين (فيصل الأول) ملكاً على العراق بسنوات قليلة، وذلك في عام 1928م، تم رفع صفتها الإدارية من ناحية إلى قضاء. وكان اسمها “الكرادي” نسبة للتاجر، وفي عام 1935 تم تغيير اسمها إلى “الرفاعي” نسبة إلى مرقد السيد أحمد الرفاعي الذي يقع ضمن حدودها حالياً، وهو أحد أقطاب المذهب الصوفي.

لعب فندق الخيري دوراً محورياً في تنشيط الحركة التجارية في المدينة، فهو اليوم أكثر من مجرد مبنى قديم، بل أصبح جزءاً لا يتجزأ من هوية هذه المدينة ويشكل رمزاً لتاريخها الغني وقد تم تسجيله كمعلم تراثي ضمن قائمة المعالم التراثية للمحافظة عبر مفتشية الآثار في ذي قار، وحظي بتوثيق كامل لمعالمه التاريخية.

يذكر مسؤول مراقبة آثار وتراث الرفاعي، سجاد فوزي، للمنصة أن موقع الفندق يُعد استراتيجياً، حيث يطل على نهر الغراف، وكان هذا يمنحه إطلالة خلابة قبل أن يتوسع العمران ويحجب هذه الرؤية الخلابة. 

ويتكون من طابقين؛ الطابق الأرضي كان مخصصاً كمقهى ولا يزال يعمل، والطابق العلوي يضم أجنحة تحتوي على غرف وشرفة واسعة اتُخذت لتكون مكاناً للاستراحة خلال الفترات المسائية وجلسات النقاش بين الضيوف.

يكمل فوزي أن بناء الفندق تم على طريقة “الشناشيل”، لأنها طريقة بناء تقليدية تساهم في تهوية المكان وتلطيف الجو. وتبلغ المساحة الكلية للفندق حوالي 250 متراً مربعاً، وهي مساحة كبيرة تتناسب مع حجمه وعدد نزلائه في ذلك الوقت. ولم يكن الفندق مقصداً للتجار والمسافرين فقط، بل كان أيضاً ملاذاً للمدرسين القادمين من محافظات أخرى للتدريس في مدينة الرفاعي. وقد لعب دوراً هاماً في الحياة الاجتماعية والثقافية للمدينة، حيث كان مكاناً للتجمع والنقاش وتبادل الآراء.

ويعد الفندق واحداً من بين عدة مواقع تراثية تقع في مدينة الرفاعي، منها الحمام الذي كان يقصده أبناء المدينة آنذاك، وكذلك السجن الذي كان مكاناً لمعاقبة المخالفين من قبل شيوخ العشائر في تلك الفترة، فضلاً عن عشرات المواقع الأثرية. وتتميز الرفاعي بوجود مواقع أثارية هامة تعود لأبرز مملكتين في الحقبة السومرية، وهما مملكة لكش ومملكة أوما التي كانت مركزاً دينياً هاماً، حيث كان يُعبد فيها الإله إنليل، إله السماء والهواء. 

وذكر المؤرخ عدنان عبد غركان للمنصة أن تشييد الفندق تزامن مع تشييد قصر الشيخ موحان الفخم الذي استقبل فيه الملك فيصل الثاني. وكان القصر والفندق معاً رمزاً للضيافة، وشاهداً على العلاقات الوطيدة التي كانت تربط المدينة بالعاصمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى