سيمفونية البصرة: رحلة هاجر تميم في عالم الموسيقى

البصرة- نغم مكي
في مدينة تكاد تخلو من العازفات النساء تعيش الشابة هاجر تميم في عالمها الموسيقي الخاص، تؤلف وتعزف على آلة البيانو مقطوعات تلفت إليها الأنظار تجمع فيها بين أصول الموسيقى الكلاسيكية الغربية والشرقية مستوحية أجواء أعمالها وموضوعاتها من واقع مدينتها البصرة.
بدأت رحلة هاجر تميم (24 عاماً) مع الموسيقى منذ طفولتها عندما أهداها والدها آلة بيانو صغيرة الحجم وعلّمها عزف مقطوعات بسيطة من التراث الشعبي، ثم تلقت دروساً في مدينتي السليمانية وأربيل وطورت موهبتها من خلال ورش تدريبية الكترونية بإشراف أساتذة من أوروبا علموها الموسيقى الغربية، كالتحليل الموسيقي وعلم التوافق الصوتي (الهارموني) وعلم الآلآت الأوركسترالية والتأليف الموسيقي.
رغم شغفها بالموسيقى إلا أن هاجر درست المرحلة الجامعية في كلية علوم البحار، وبالنسبة لها ذلك لم يحدّ من قدرتها الموسيقية بل على العكس، “أسهم في تغذية خيالي الموسيقى، إذ أشعر أن أنهار البصرة وشط العرب وبحر الفاو وأمواج المد والجزر ترافقني كلما هممت بالعزف على الآلة”، تقول للمنصة.
تستذكر هاجر أيام دراستها الجامعية في فترة كورونا والحظر الصحي قائلة: “كنت أجلس أمام البيانو في المنزل، أتأمل تفاصيل مدينة البصرة وأبحث في تاريخها وتراثها، وكيف كان الناس يعيشون فيها في الماضي، فألفت مقطوعة بعنوان “البصرة” وكانت أول مقطوعة موسيقية أنشرها”.
تضرب هاجر مثلاً آخر على تأثرها بدراستها الجامعية عند تأليفها مقطوعة “شط العرب” التي أنجزتها في غضون أيام قليلة ومدتها دقيقتان و35 ثانية. تقول: “لطالما أسرني شط العرب بقصة تكوينه من التقاء نهري دجلة والفرات. وكلما نظرت إليه فكرت في ويلات الحروب والتلوث وارتفاع درجات الحرارة القاسية، وكيف بقي الشط رغم هذا جميلاً وكريماً مع أهالي البصرة، فشعرت برغبتي في رد الجميل له بمقطوعة موسيقية تشبه جماله وقوة تحمله”.
وتضيف: “للأسف، لم تشارك مقطوعة شط العرب في أي مهرجان أو مناسبة، لكنها لاقت استحساناً كبيراً عند نشرها على حسابي الشخصي، وشاركها العديد من الأصدقاء والصفحات المحلية والموسيقية الداعمة للمواهب البصرية”.
في الدورة الخامسة عشر لمهرجان عيون للإبداع الموسيقي للشباب في العاصمة بغداد التي أقيمت في العام الماضي حصلت هاجر على الجائزة الأولى لتكون أول فتاة بصرية تُتوج بهذه الجائزة، وقدمت في المهرجان مقطوعتها “إلى الجنوب” التي لاقت إعجاب المايسترو العراقي المعروف علي خصاف ونالت استحسان النقاد في الصحافة العراقية والعربية.
تقول هاجر: “أدمج بين الألحان الغربية والإيقاعات الشرقية وأحاول إبراز الإيقاع البصري في معظم أعمالي، فهذه هي الهوية اللحنية التي أعمل على تطويرها”.
تشير الموسيقية البصرية الشابة إلى استماعها الدائم لأعمال مؤلفين غربيين عظام مثل موزارت وبتهوفن وباخ وفيفالدي، أما من العرب فقد تأثرت بعازف العود نصير شمة والفنان كاظم الساهر وكذلك بالموسيقى التراثية والمقام البغدادي.
وترى أن المعاهد الموسيقية في البصرة والعراق عموماً “تحتاج لتحديث مناهجها لتواكب التطور الموسيقي الحديث، بحيث يتعرف دارسو الموسيقى الشرقية على الموسيقى الغربية، وبالعكس، يتعرف العازفون الغربيون على أصول المقامات والجمل اللحنية الشرقية”.
وتستطرد هاجر في حديثها قائلة: “توجد اليوم العديد من معاهد الموسيقى، إلا أن منهجية التدريس ما زالت للأسف تعتمد على الأساليب القديمة، فلا يوجد قسم لتأليف الموسيقى، وحتى دراسة الموسيقى في الكليات أو المعاهد تعتمد على كتب ومناهج قديمة لا تواكب التطورات الحديثة. أما بالنسبة للتأليف، فقد درسته من خلال ورش إلكترونية مع أساتذة من الغرب، وقد أفادني ذلك كثيراً في إتقان العزف والتأليف. لهذا السبب، انحصرت المواهب الموسيقية للنساء في مجالي العزف والغناء فقط”.
يشيد سيفان سورين، قائد أوركسترا البصرة، بموهبة هاجر التي ظهرت للعلن من خلال أعمال من تأليفها وتوزيعها قامت بعزف إحداها السيمفونية العراقية الوطنية في بغداد.
ويضيف سيفان: “عُرفت البصرة سابقاً بموسيقى متطورة، وهي تعود الآن إلى سابق عهدها، حيث شهدت عودة ملحوظة لمشاركة النساء في هذا المجال. مثال على ذلك أوركسترا البصرة، التي تضم 8 عازفات صغيرات لا تتجاوز أعمارهن ثماني سنوات، يعزفن على آلة التشيلو المعقدة. ورغم التحديات، تمكنت هؤلاء الفتيات من إظهار مهارات استثنائية بدعم كبير من عائلاتهن”.
وينوه سيفان إلى أن 9 من أصل 25 عازفاً في الفرق الموسيقية هم من النساء، مما يعكس تزايد مشاركة الإناث، عازياً ذلك إلى الاتفتاح التدريجي الذي تشهده المدينة على الموسيقى والفنون.
وأوركسترا البصرة مشروع بدأ منذ نحو عشر سنوات بجهود فردية لموسيقيين بصريين، وكان يضم أطفالاً فقط، وقدمت الاوركسترا أولى حفلاتها سنة 2018 إلى أن تمكنت اليوم من تثبيت أقدامها كفرقة سمفونية تضم عشرات الأطفال والشباب والشابات وتقدم أعمالها في محافل عراقية ودولية.
ويتابع سيفان أن المشروع يقدم دعماً متميزاً للمواهب الشابة بأجور رمزية أو حتى من دون أجور، ويسد فراغاً تعاني منه المنطقة الجنوبية يتمثل في نقص العازفات الإناث على بعض الآلات مثل الكونترباص والفلوت والتشيلو.
وبرزت في الفترة الأخيرة العديد من العازفات المبدعات اللواتي يشاركن في غناء الأوبرا والأناشيد، بعضهن يعملن تحت أسماء مستعارة لأسباب خاصة. ورغم التحديات الاجتماعية والدينية، فإن الإقبال على تعلم الموسيقى يتزايد في مجتمع يُعرف بالتحفظ.
من جانبه، يوضح محمد كاظم، الأستاذ الجامعي والموسيقي في كلية الفنون الجميلة بجامعة البصرة، أن هناك تقدماً في المشهد الموسيقي، إلا أن الحكومة لا تقدم دعماً كافياً لأقسام الفنون الشعبية في المحافظة، مثل بيت المقام ودائرة الفنون الموسيقية، كما يغيب الدعم عن المهرجانات والحفلات الموسيقية.
ويضيف: “مع ذلك، خلال السنوات الأخيرة، عملنا على إعادة إحياء التراث والفنون الشعبية، وعلى تعزيز الغناء الجماعي (الكورال) بمشاركة الجنسين، حيث تفوق نسبة البنات عدد الذكور”.
وبينما يوجد معهد حكومي واحد في البصرة يفتقر إلى الأقسام الموسيقية اللازمة ويعاني من ضعف الإنتاج، يبرز مشروع أوركسترا البصرة كمبادرة مهمة “تهدف إلى تأسيس فرقة سيمفونية كاملة” بحسب كاظم الذي شدّد على أن “هاجر وأمثالها هم أول القطاف، وهناك أجيال جديدة ترغب في التعلم لا بد من الالتفات إليها”.
لا تكتفي الشابة هاجر بما تملكه من موهبة، بل أحبت أن تنقل تجربتها الموسيقية بعد أن أتاحت لها الكنيسة الكلدانية في البصرة مساحة لتعليم مجموعة من الصغار اليافعين في دورة موسيقية قصيرة.
تتحدث هاجر عن هذه التجربة قائلة: “فرحت كثيراً وأنا أرى الصغار من كلا الجنسين يحققون رغبتهم في تعلم الموسيقى وكنت أشعر بلهفتهم وهم يتعرفون على النوتات الموسيقية والمقامات. كان تحمسهم تجربة مميزة أرغب في تكرارها مستقبلاً”.
بعد النجاح الذي حققته مقطوعة “شط العرب” تكشف هاجر عن طموحاتها وأحلامها المستقبلية في إنجاز موسيقى تصويرية لأعمالٍ درامية وسينامئية، وكذلك في إعداد عمل اوركسترالي يمزج بين الموسيقى الشرقية والغربية، وتأمل أن توفر الحكومة المحلية لمحبي الموسيقى وعازفيها دار أوبرا وقاعات للفنون الموسيقية تحتضن المواهب البصرية الشابة.
أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)