بغداد تروي قصصها عبر زجاجات العطور

فاطمة كريم – بغداد
عند دخولك أسواق الكاظمية في بغداد، تغمرك روائح زكية تتداخل فيها رائحة العنبر والعود مع عبير الورد والياسمين، مكونة مزيجاً عطرياً فريداً. تتلألأ زجاجات العطور بألوانها الزاهية، وتعرض الواجهات تشكيلة واسعة من الروائح التي تلبي مختلف الأذواق.
علي حيدر، شاب يبلغ من العمر 27 عاماً، يعمل في محل لبيع العطور المركبة في منطقة الكاظمية، حيث وُلد ونشأ. يُعد علي من أشهر صانعي العطور في السوق، يستقبل الزبائن بابتسامة ويروي حكايات عن هذا الفن العريق، موضحاً أسرار اختيار المكونات وطريقة مزجها للوصول إلى روائح متقنة. تبدو عليه الحماسة عند حديثه عن كل زجاجة عطر وكأنها عمل فني يحمل قصة خاصة.
يقول علي: “دخلت عالم العطور منذ سن الثانية عشرة، عندما عملت في أحد محلات أقاربي داخل السوق، حتى اجتهدت وافتتحت محلي الخاص”، ويتابع “هذه المهنة ليست ككل المهنة، فليس هناك وصفة واحدة لتركيب العطر، والذائقة والخبرة الشخصية لصانع العطور تلعب دوراً حاسماً”.
شارع باب القبلة، الواقع مقابل مرقد الإمام موسى الكاظم في منطقة الكاظمية، من أبرز الأسواق المختصة ببيع العطور المركبة والبخور في بغداد. تنتشر على جانبيه محلات العطور، ويقصده العديد من الباحثين عن الروائح العربية التقليدية والتراكيب الخاصة التي تشتهر بها هذه المنطقة.
يفتح علي محله عند الساعة الثامنة صباحاً ويبقى حتى أوقات متأخرة من المساء بفضل النشاط المستمر في الشارع. يتميز هذا الشاب بشغفه بعالم العطور، ويقول: “كل عطر له قصة، وكل زبون يبحث عن عطر يعبر عن شخصيته”. يعمل علي على مزج المكونات بعناية ليصل إلى تركيبات فريدة، ويؤكد أن الزبائن يعودون للشراء ليس فقط بسبب جودة الروائح، ولكن أيضاً بفضل التجربة الشخصية التي يعيشونها عند الاختيار.
تتنوع مصادر العطور التي يستوردها علي من مختلف البلدان، حيث يقدم عطوراً فرنسية وإسبانية وإنجليزية، إضافة إلى عطور إيرانية وخليجية تعتمد غالباً على العود. يقول علي: “يفضل الزبون العراقي العطور الثقيلة والمركزة، لأن طبيعة السوق تميل إلى الروائح الفواحة”. وتتميز الروائح في هذه الأسواق بتنوعها؛ من العطور الشرقية القوية مثل المسك والعنبر، إلى الروائح الزهرية والفواحة كالأزهار والفواكه. يجد الزائر روائح الورد الجوري والياسمين والفانيليا، مما يضفي تجربة حسية فريدة.
في داخل المحل، تلمع زجاجات العطور بألوانها الزاهية، بينما يقوم علي بسحب العطور من العلب الكبيرة باستخدام “السرنجة” مع مراعاة الأحجام والتركيز الذي يطلبه الزبون.
ليس هناك وصفة واحدة لتركيب العطر، والذائقة والخبرة الشخصية لصانع العطور تلعب دوراً حاسماً.
بينما كانت تتجول سمية خالد، سيدة في الثلاثين من عمرها، بين محلات العطور، توقفت عند محل علي وسألته: “هل لديك عطر ديور؟” فرد عليها بترحيب، موضحاً خياراته المتاحة والفصول المناسبة لكل عطر، سواء للشتاء أو الصيف.
تقول سمية: “أفضل العطور المركبة لأنها أصلية وتدوم طويلاً على الجسد والملابس حتى بعد غسلها”. وأوضحت أن هناك نوعين من العطور المركبة، الزيتية والكحولية، وهي تفضل الزيتية لأنها تدوم لفترة أطول.
تجذب هذه الأجواء الزبائن من جميع الفئات، فيتوافد الشباب وكبار السن لاختيار عطورهم المفضلة، ويتبادلون الأحاديث حول الأذواق والذكريات المرتبطة بكل عطر. ويؤكد علي أن محال العطور المركبة في بغداد بدأت تشهد إقبالاً كبيراً من السياح، “يجذبهم جمال العطور التقليدية واللمسة الحرفية العراقية في كل زجاجة”.
ويتميز موقع هذه المحال بقربها من المراقد الدينية، مما يجذب زبائن من مختلف الجنسيات، مثل الإيرانيين والباكستانيين والهنود وغيرهم من الزوار. يقول علي: “يزداد الطلب على هذه العطور خلال المناسبات الدينية، حيث يتزايد عدد الزوار الذين يبحثون عن الهدايا، والعطور تُعد من أجمل الهدايا التي يمكن تقديمها”.
أما سمية، فتعبر عن حبها للعطور التي ارتبطت بذكريات الطفولة مع والدها، وتقول: “كان والدي يصطحبني لزيارة المراقد، وبعدها كان يشتري لي ولعائلتنا العطور، وكان يفضل دائماً عطور العود العربي”.
حسين علي، صاحب محل مجاور، يبلغ من العمر 35 عاماً، يعمل في مجال العطور منذ حوالي 20 سنة. انضم إلى العمل مع والده منذ الصغر، ويقول: “ورثت من والدي هذا الفن الجميل، فمزج تراكيب العطور بنسب معينة لإنتاج عطر مميز هو مهارة يمتلكها صانعو العطور”.
تختلف أسعار العطور حسب منشأها وجودتها، بالإضافة إلى حجم الزجاجة المطلوبة. يقول حسين: “تبدأ الأسعار من 3 دولارات وتصل إلى أكثر من 100 دولار حسب رغبة الزبون”.
ويضيف: “نتعامل أيضاً مع الطلبات الكبيرة التي نصدرها إلى بقية المحافظات بأسعار الجملة، وتعد وسائل التواصل الاجتماعي من أهم الأدوات التي نستخدمها اليوم لتسويق منتجاتنا وتوفير خدمة الطلب عبرها”.
خلال جولتنا بين محال العطور المركبة في بغداد، كان كلام البائعين والمشترين يؤكد أن هذه الأسواق ليست مجرد أماكن لشراء زجاجات العطر، بل هي مساحات تروي قصصاً عن أصالة هذه الحرفة وعن العلاقة الوثيقة بين كل زجاجة عطر وصانعها.