رحلة ثلاث صحافيات عراقيات من أجل مناخ أفضل

عديلة وأسماء ونغم، ثلاث صحافيات من ثلاث مدن عراقية، جمعتهن قضية واحدة؛ حماية البيئة والحفاظ على مستقبل بلد يطمح أن يكون أكثر خضرة وأقل تلوثاً..
فاطمة كريم-بغداد
تسير أسماء ببطء في أرض الأهوار الجافة، تحت أشعة الشمس الحارقة التي تلقي بظلالها القاسية على جسدها. تمسك في يدها دفتر ملاحظات مفتوحاً، وباليد الأخرى تمسح العرق عن جبينها. الأرض المتشققة تحت قدميها تحكي قصة واحدة من أكبر الخسائر التي عرفتها البلاد؛ تلك المسطحات المائية التي كانت تعج بالحياة فتحولت إلى أراضٍ قاحلة بشقوق طويلة وعميقة تمتد كجروح مفتوحة.
أسماء الشعلان، 32 عاماً، صحافية وناشطة بيئية من محافظة الناصرية، حصلت على شهادة البكالوريوس من كلية الإعلام بجامعة بغداد، وعملت في مجال الصحافة منذ كانت طالبة. بدأت رحلتها في الصحافة البيئية بعد أن لمست التغيرات المناخية وتأثيرها على مجتمعها.
تقول أسماء: “قبل أربع سنوات، رأيت كيف كانت العوائل الساكنة في مناطق الأهوار تنزح إلى مركز المدينة، ثم استمرّت المشاكل في التفاقم من ارتفاع درجات الحرارة وتلوث الهواء. بدأت حينها التساؤلات تدور في ذهني وشرعت في البحث عن إجابات”.
تُعرف أسماء في منطقتها كواحدة من الأصوات الصحفية الجريئة التي تخوض معركة التغيرات المناخية. عندما لاحظت التدهور البيئي في مدينتها وتأثيره على حياة السكان، قررت ألا تبقى صامتة، فبدأت رحلتها نحو القرى والأرياف، متنقلة بين الأهوار التي كانت يوماً ما مفعمة بالحياة. هناك، جلست مع العائلات المتضررة، استمعت إلى قصصهم ومعاناتهم مع التصحر وشح المياه وتدهور الزراعة.
تقول بينما تتابع سيرها: “قابلت عشرات الأشخاص الذين فقدوا مهنتهم وأعمالهم، منهم أحد الصيادين في الأهوار روى لي كيف كان يحقق دخلاً عالياً قبل ان تنفق الأسماك في منطقته.. اليوم يعيش الرجل مع أسرته حياة معدمة، لا يملكون قوت يومهم”.
الناصرية.. أزمة عمرها أربعون عاماً
أهوار الجبايش، الواقعة شرق مدينة الناصرية، تشكل جزءاً من الأهوار العراقية التي أدرجت على قائمة التراث العالمي لليونسكو في عام 2016. وقد وصفتها اليونسكو بأنها “ملاذ للتنوع البيولوجي وموقع تاريخي لمدن حضارة ما بين النهرين”. وعلى مدى آلاف السنين، تعايشت فيها مجتمعات كبيرة اعتمدت على صيد الأسماك وتربية الجاموس، مستخدمةً أساليب حياة تتأقلم مع البيئة، مثل السكن في الأكواخ التقليدية المصنوعة من القصب.
تعاني منطقة الأهوار منذ سنوات من قلة الأمطار، لكنها تشهد منذ عام 2020 موجة جفاف هي الأشد خلال 40 عاماً. وأسهمت مشاريع السدود والقنوات التي تبنيها كل من تركيا وإيران في انخفاض مناسيب المياه في نهري دجلة والفرات.
لم تكتف أسماء بمراقبة ما يحصل في منطقتها من تدهورٍ بيئي، بل وثقت ما شاهدته، ونقلته إلى القراء، مسلطة الضوء على معاناة الأهالي في واحدة من أقدم المناطق المأهولة في العالم.
وهي بالنسبة لكثر من قاطني هذه المناطق تحولت إلى رمز للصحفية البيئية، حاملةً رسالة من أهالي الأهوار إلى العالم. تقول أسماء: “الصحافة من أهم الأدوات لمحاربة أزمة المناخ، عبر إيصال أصوات غير مسموعة ونقل واقع مرير عن مناطق منسية. أنا صحفية وابنة هذه المدينة، وسأحارب بقلمي دائماً”.
تستذكر أسماء أحد أكثر المواقف المؤلمة، وعيناها تملؤهما الحزن، فتقول: “كنت أعمل على تحقيق صحفي حول النزوح المناخي الذي عانى منه سكان الأهوار، وهناك التقيت بإحدى النساء التي عرضت علي أن آخذ ابنها بعدما أنهكها الفقر وتراكمت عليها مصاعب الحياة. إلى أي حال وصل بها الأمر حتى تستطيع التخلي عن ولدها؟”.
إلى البصرة
على بعد ساعتين بالسيارة من مدينة الناصرية (حوالي 190 كم)، تواجه الصحفية نغم مكي، البالغة من العمر 36 عاماً، واقعاً صعباً في مدينتها البصرة التي كانت تُعرف سابقًا بـ”عروس العراق” لجمال طبيعتها. اليوم، تعيش المدينة أزمة بيئية وصحية جرّاء التلوث النفطي وزيادة الملوحة في مياه شط العرب الذي كان يومًا شريان الحياة لسكانها.
تتحدث نغم عن بداياتها في العمل الصحفي قائلة: “عندما لمست الضرر في عائلتي بعد إصابة أفرادٍ منها بمرض سرطان الدم بسبب التلوث المتزايد، شعرت بمسؤولية أكبر وقررت أن أنقل واقع مدينتي. هناك آلاف الإصابات المشابهة بأمراض الجهاز التنفسي والحساسية الجلدية وغيرها الكثير”.
كرست نغم جهودها في تغطياتها الصحفية على ارتفاع معدلات الإصابة بالسرطانات والأمراض في المحافظة الغنية بالنفط والتي تعد أكثر المناطق تلوثاً في البلاد، حيث تتصاعد انبعاثات سامة وملوثات ناتجة عن الأنشطة الصناعية والنفطية، مما يشكل تحدياً بيئياً كبيراً يهدد حياة السكان.
على ضفاف شط العرب، كانت نغم تتحدث عن تجربتها بينما تحدق في مياه الشط العكرة التي كانت يوماً ما صافية، قائلة: “أنا وزملائي الصحافيين نواجه صعوبة كبيرة في الحصول على المعلومات من الجهات الحكومية، تقابل طلباتنا بالحصول على المعلومات بالرفض المتكرر، كما أن غياب الإحصائيات والبيانات الحديثة في المؤسسات الحكومية واعتماد الأخيرة على بيانات قديمة تعود إلى عشرات السنين يشكل أحد أكبر التحديات التي نواجهها في تحقيقاتنا الصحفية”.
تحت سماء جنوبي العراق الملبدة بالدخان والغبار، تجمع أسماء ونغم شغفهما بالصحافة وهمّهما المشترك في توثيق معاناة مدن تئن تحت وطأة التلوث. أسماء، بصوتها الشجاع، تكشف في مقالاتها عن واقع الناصرية، بينما تتوجه نغم إلى شط العرب، تلتقط بعدستها صورًا لمياه تحولت من رمز للحياة إلى مصدر للمرض. تتلاقى أقلام أسماء ونغم في رسم صورة كئيبة، لكنها واقعية، لأحوال الجنوب العراقي، وتتشاركان رغبة واحدة في أن تصل رسائلهما إلى من بيده القدرة على تغيير هذا الواقع.
ثمّ إلى بغداد
عديلة شاهين، صحافية بيئية من بغداد تبلغ من العمر 40 عامًا، هي أنموذج آخر لصحافية تدفع أثماناً كبيرة لتوصيل رسالتها الإعلامية إلى الجمهور والمسؤولين في بلدها. تقول عديلة: “بدأ اهتمامي بالصحافة البيئية، التي لم تكن معروفة آنذاك، بعد أحداث عام 2003، عندما لاحظت الضرر الكبير جراء استخدام الأسلحة التي كانت الأقسى على البيئة، واستمر أثرها إلى يومنا هذا”.
خطت عديلة أولى خطواتها في هذا المجال عام 2017، عندما نشرت تحقيقاً بعنوان “الإرهاب البيئي”. تروي عديلة لمنصة العراق الإعلامية: “تعرضت للتنمر من قبل زملاء المهنة، إذ اعتبروا العمل على القضايا البيئية نوعًا من الترف وقضية غير ذات اهتمام لدى الرأي العام.” وتكمل حديثها قائلة: “بعد فترة من التنمر الذي واجهته، تعرض تحقيقي حول الإرهاب البيئي للسرقة”.
لم تقتصر عديلة في عملها الصحفي البيئي على نقل واقع مدينتها البيئي فحسب، بل سعت إلى تسليط الضوء على قضايا الفوضى المناخية والأزمات الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن النزوح في المحافظات الجنوبية والغربية من العراق، واضعةً هذه القضايا أمام أنظار أصحاب القرار ومقدمةً حلولاً ممكنة.
تقول عديلة: “كثيراً ما كنت أنجز التقارير البيئية بلا مقابل مادي، فالصحافي أو أي شخص آخر يهتم بقضايا البيئة يجب أن يؤمن بها ولا ينتظر مكافأة”.
عديلة وأسماء ونغم، ثلاث صحافيات من ثلاث مدن عراقية، تجمعهن قضية واحدة؛ حماية البيئة والحفاظ على مستقبل بلد يطمح أن يكون أكثر خضرة وأقل تلوثاً.
أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)