النباتات الصحراوية تزحف إلى الأهوار: بيئة مهددة وسكان يصارعون للبقاء

ذي قار- مرتضى الحدود

في صباح يوم غائم، يقف حيدر جمعة، أحد سكان الجبايش، عند حافة الأهوار وينظر بتمعن إلى المشهد المتغير أمام عينيه. كانت المياه تغمر هذه الأرض قبل سنوات، أما الآن فقد أصبح الجفاف هو السائد. وبدلاً من مسطحات المياه الممتدة على مساحات واسعة تحولت المنطقة إلى أرض مقفرة تغزوها النباتات الصحراوية مثل الشوك والطرطيع والأثل.

يشير حيدر، الذي يعرف هذا المكان جيداً إلى الشارع الرئيسي الذي لا يبعد سوى 300 متر، موضحاً كيف كانت المياه تغمره في الماضي، بينما الآن تنحسر المياه تدريجياً محولة اجزاء واسعة  من المنطقة إلى مساحات صحراوية. يقول “هذا ليس مجرد مشهد طبيعي بل هو تحول بيئي يعكس معاناة الأرض وأهلها”.

أما ناصر صابر، الذي يعمل في نقل السائحين عبر زورقه الصغير في الأهوار، فيعرف جيداً أسباب هذا التحول، فزروقه الذي كان ينساب في الممرات المائية التي كانت مليئة بالحياة قبل سنوات ضاقت فرص حركته في السنوات الأخيرة. يقول ناصر بنبرة حزينة: “حتى في المسطحات المائية قل عدد النباتات المائية أيضاً مثل الشويجة والبردي، التي كانت تسهم في تنقية المياه، وعندما تختفي، يختفي معها صفاء المياه”.

ويضيف ناصر: “إذا رأيت المياه صافية في الأهوار، فهذا يعني أن الشويجة والبردي موجودان. وإن غابا، يظهر الجفاف الذي يكسو الأرض”. يتنهد وهو ينظر إلى السطح الباهت للمياه مدركًا أن هذا التحول البيئي ليس فقط نتيجة الزمن، بل هو نتيجة لغياب الاهتمام، ربما من الجميع.

تُعد بيئة الأهوار العراقية وفقاً لمختصين واحدة من أندر البيئات الطبيعية في العالم، إذ تجمع بين جمال المناظر الطبيعية وتنوع الحياة البرية الفريدة. ولا تقتصر أهمية الأهوار على كونها موطناً للعديد من الكائنات الحية، بل هي أيضاً شاهدة على التنوع البيئي الفريد الذي يجعلها مقصداً للباحثين وموطناً للحفاظ على أنواع من الحيوانات والطيور مهددة بالانقراض.

في هذه الأراضي الرطبة التي تلامس المياه وتغذيها، يعيش أكثر من 90 نوعاً من الفطريات التي تساهم في توازن النظام البيئي. كما يوجد في الأهوار أكثر من 260 نوعاً من الهائمات النباتية والطفيلية، جنباً إلى جنب مع الطحالب التي تشكل أساساً مهماً في سلسلة الغذاء المائي. وتعد النباتات المائية في الأهوار من أهم مكونات النظام البيئي، حيث يعيش فيها حوالي 51 نوعاً من النباتات التي تسهم في تنقية المياه وتوفير الغذاء للعديد من الكائنات.

وتمثل الأهوار ملاذاً آمناً لأكثر من 89 نوعاً من الهائمات الحيوانية، وهي كائنات حية صغيرة جداً تعيش في المياه وتطفو مع التيارات المائية، و92 نوعاً من اللافقاريات الكبيرة. أما الأسماك، فهي حكاية أخرى، إذ يُقدر عدد أنواع الأسماك في الأهوار بحوالي 41 نوعاً من الأسماك النهرية والبحرية المهاجرة، وتمثل مصدراً غذائياً حيوياً للعديد من الكائنات الأخرى.

ليست الأهوار فقط موطناً للكائنات الصغيرة، بل هي أيضاً مأوى لعدد هائل من الطيور المائية، إذ تضم أكثر من 159 نوعاً من الطيور المهاجرة والمقيمة، سواء تلك التي تفضل الأجواء الشتوية أو الطيور التي تعيش في الأهوار خلال فصل الصيف. وهناك أيضاً أكثر من 18 نوعاً من اللبائن (الثديات) التي تقطن هذه المنطقة أو تتردد عليها بانتظام.

ويؤكد مختصون أن الأهوار، بتنوعها البيئي الفريد، تمثل عاملاً أساسياً في الحفاظ على توازن الحياة البرية في المنطقة. لكن هذه البيئة تواجه تحديات كبيرة بسبب الأنشطة البشرية والتغيرات المناخية، مما يجعل الحفاظ عليها صعباً ويزيد من صعوبة حياة سكانها الذين يعتمدون بشكل رئيسي على الزراعة والصيد وتربية الجاموس.

لن أرحل عن الأهوار حتى لو تحولت إلى كثبان رملية، فهذا موطني وجذوري هنا

وحذرت التدريسية في جامعة ذي قار، منار ماجد، من التناقص المستمر في المسطحات المائية في الأهوار، مشيرة إلى أن هذه التغيرات لا تقتصر على البيئة الطبيعية، بل تمتد لتشمل التركيبة السكانية المحلية التي تأثرت بشكل بالغ.

وأوضحت ماجد أن التناقص في المياه أدى إلى تغييرات واضحة في التنوع البيولوجي للأهوار، فقد لوحظ قلة أعداد الكائنات الحية التي كانت تشكل جزءاً أساسياً منها، بالإضافة إلى ظهور نباتات غريبة لا تنتمي إلى البيئة الأهوارية، ما يشير إلى تحول مقلق في النظام البيئي. وأكثر من ذلك، أدى انحسار المسطحات المائية إلى تراجع كبير في تواجد الأنواع السمكية، مما يهدد سبل العيش للكثير من العائلات التي تعتمد على الصيد كمصدر رئيسي للدخل.

وأكدت ماجد أن تأثير هذه التغيرات لا تقتصر على الكائنات الحية فقط، بل تمتد إلى تربة الأهوار نفسها التي بدأت تتحول تدريجياً إلى تربة جافة، مما يهيئ الظروف لظهور نباتات صحراوية لا تتناسب مع بيئة الأهوار المائية.

وشددت على أهمية تبني حلول فعالة للحفاظ على بيئة الأهوار، مشيرة إلى ضرورة استخدام تقنيات متقدمة في معالجة مياه الصرف الصحي، كما هو الحال في العديد من الدول حول العالم.

من جانبه، كشف مدير دائرة الهجرة في محافظة ذي قار، ليث دخيل، عن أرقام مقلقة تتعلق بحجم النزوح نتيجة التغيرات المناخية بشكل عام في المحافظة، بدءاً من 2019 وحتى نهاية 2023، والتي شملت التصحر وجفاف الأهوار. وبلغ عدد العوائل التي اضطرت للنزوح من هذه المناطق إلى مراكز المدن أو محافظات أخرى أكثر من عشرة آلاف وخمسمائة عائلة، أي ما يعادل أكثر من 52 ألف فرد.

ويعني هذا أن قرابة 29 فرداً يومياً ينزحون من المناطق المتأثرة بالتغيرات المناخية نحو مراكز المدن أو إلى محافظات أخرى.

وأوضح دخيل أن هذا النزوح الجماعي جاء نتيجة لانخفاض منسوب المياه في الأنهار وتدهور الأراضي الزراعية، مما يجعل الحياة في مناطق الأهوار والمناطق الصحراوية المحيطة غير مناسبة.

وتستمر أزمة التغيرات المناخية في تهديد استقرار سكان جنوب العراق، وسط تقارير تشير إلى تفاقم الظاهرة في السنوات القادمة إذا لم تُتخذ حلول ناجعة.

وأفادت أرقام صادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء التابع لوزارة التخطيط بأن مساحات الأراضي الصالحة للزراعة في محافظة ذي قار، للمحاصيل الاستراتيجية مثل الحنطة والشعير، شهدت تراجعاً ملحوظاً خلال السنوات الأخيرة. ففي عام 2018، سجلت المساحة الصالحة للزراعة نحو 1,019,320 دونماً، بينما انخفضت في عام 2022 إلى حوالي 737,800 دونم، أي بنسبة تقلص بلغت 28%.

وتعيش العديد من العائلات في مناطق جنوب العراق واقعاً مؤلماً نتيجة للتغيرات المناخية التي دفعتها إلى ترك موطنها الأصلي وترك مهنها التقليدية كالزراعة وتربية الماشية، واللجوء إلى المدن أو البحث عن وظائف حكومية. هذا النزوح الجماعي الذي بدأ منذ سنوات يهدد ليس فقط الاستقرار الاقتصادي لهذه العائلات، بل يمتد إلى تأثيرات خطيرة على البيئة والمقدرات الغذائية والثقافة المحلية التي تشكل جزءاً من هوية هذه المجتمعات.

وتشير تقارير مختصين إلى أن خسارة الأراضي الزراعية نتيجة انخفاض منسوب المياه وارتفاع نسب الملوحة وتدهور التربة قد أفقد العديد من العائلات مصدر رزقها. ومع تدهور قطاع الزراعة، تعرضت العديد من الماشية للموت الجماعي، إضافة إلى تدمير الثروة السمكية نتيجة لارتفاع مستويات الملوحة وندرة المياه العذبة.

لكن التأثيرات لا تقتصر على الجانب البيئي والاقتصادي فقط، بل تطاول أيضاً الهويات الثقافية والاجتماعية لهذه المجتمعات. 

يقول مختصون في الشأن الاجتماعي إن عملية النزوح أسهمت في القضاء على العديد من الظواهر الثقافية التي لطالما ارتبطت بهذه المجتمعات، مثل اللهجات المحلية والعادات والتقاليد المتوارثة، مع هجرة الأهالي إلى المدن مما تسبب بظهور جيل جديد بعيد عن الجذور التي شكلت هوية أسلافهم، ما يؤدي إلى تآكل القيم والممارسات الثقافية الأصيلة.

من جانبه، كشف مدير دائرة الزراعة في محافظة ذي قار، محمد عباس، عن التأثيرات المدمرة للجفاف على الثروة الحيوانية والبيئة في مناطق الأهوار بالمحافظة. حيث تحتضن هذه المناطق نحو 84 ألف رأس من ماشية الجاموس، لكن جفاف السنوات الأخيرة أدى إلى هلاك نحو 20% من هذا العدد، مما يعكس حجم الكارثة التي طالت القطاع الزراعي والحيواني.

ورغم قساوة الظروف، إلا أن حيدر وناصر يحاولان التكيف مع ما يحدث، فهما، رغم التحولات الصحراوية وقلة مصادر العيش، لا يمتلكان القدرة على مغادرة مناطقهم في الأهوار والعيش داخل المدن.

يقول ناصر: “لن أرحل عن الأهوار حتى لو تحولت إلى كثبان رملية، فهذا موطني وجذوري هنا”. أما حيدر فيعلق قائلاً: “على الحكومة أن تفكر بجدية في إنقاذ هذه الأرض وإنقاذنا نحن، سكان الأهوار، وحيواناتها ونباتاتها”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى