بين الأرض والمياه: نساء الأهوار يعشن تحديات الحياة بسبب الجفاف المستمر
المنصة – مرتضى الحدود
في باحة منزلها البسيط حيث تلتقي السماء بالأرض، تجلس أم خالد بكل صبر وأمل، تبدو يداها تحملان آثار الزمن وتمسكان بخيوط الحياة ورغم تجاعيد وجهها التي تحمل قصص السنين، لا تزال هذه العجوز الطاعنة بالسن تجاهد للبقاء في موطن آبائها وأجدادها بهور “ام الودع” متمسكة بإرثها السومري الذي توارثته عبر الأجيال.
ام خالد المرأة السبعينية تلبس العباءة السوداء التي تميز نساء الجنوب، وتغطي رأسها بـ”الشيلة” لتحمي نفسها من شمس النهار أو الرياح الباردة وفي إصبعها خاتم قديم، يحمل في تفاصيله حكايات من الزمن الجميل، عندما كانت تمضي أيامها في الأهوار، تصنع الحصير وتربي المواشي وتعيش وسط الطبيعة الخلابة ولكن اليوم تروي كيف كانت حياتها أكثر سعادة وهناءً قبل أن تلتهم قسوة الجفاف أراضي الأهوار التي كانت مصدر رزقها.
هور ام الودع الذي تسكنه يقع جنوب قضاء كرمة بني سعيد التابع لمحافظة ذي قار جنوب البلاد ويبعد من مركز المدينة بحدود (15) كيلو متر ويعد جزء من هور الحمّار المسطح المائي الممتد من سوق الشيوخ جنوب محافظة ذي قار وحتى قضاء المديّنة التابع لمحافظة البصرة ويتغذى هذا الهور من مياه المصب العام ونهر الفرات.
تواصل أم خالد وهي تسكن في منزلها نسج الحصائر القصبية بيديها المجعدتين، وعيونها تلمع بالحزن والأمل معًا، بينما تروي لنا كيف أن الجفاف قضى على موارد رزقها، فحتى الصيد والزراعة تراجعا بسبب قلة المياه لكنها رغم كل ذلك تبقى صامدة وتعمل مع ابنها في جمع القصب لصناعة الحصير، وهو عمل شاق للغاية كما تصفه مع زيادة التكاليف وصعوبة الحصول على المواد الاساسية وهو القصب وقد ارتفع سعر الحصيرة من خمسة آلاف الى سبعة آلاف دينار نتيجة الجهد والوقت المبذول.
لا تجد السيدة السبعينية بديلاً عن العمل بيدها، لأنها تعلم جيدًا أن قوت يومها لا يمكن أن يأتي إلا من جهدها الخاص ومع أن أبناءها يعملون في صيد الأسماك وبعض المهن الحرة البسيطة إلا أن أم خالد لا تزال تفضل أن تعيش بعرق جبينها.
معظم جيران السيدة الأهوارية واقاربها نزحوا نحو المدن الا انها غالبا ما تحاول طرد فكرة النزوح من ذهنها اذ تقول “لا اجد الراحة داخل المدينة وانا بين اربعة جدران وافضل هواء الأهوار، وحياة البساطة”.
ام حسين هي الاخرى تسكن هور أم الودع تروي قصتها مع الجفاف وهي تجلس قرب جدول مائي متوسدة الارض وتبيّن كيف ان الظروف المناخية غيرت مسار الحياة فبعد ان كان جلب القصب من اماكن قريبة امرا طبيعيا بات هذا الامر يتطلب جهدا مضاعفا بسبب الجفاف حيث لا يصل طول القصب اليوم سوى ثلاثة امتار.
يصنع الحصير بعد تقطيع القصب إلى نصفين، ثم سحقه بأقدام الجاموس ويتطلب نسجه يومين وتقول عن المكسب المالي لصناعة الحصيرة انه بالامكان أن تكسب النساء بين (30-50) ألف دينار في الأيام التي كان فيها القصب متوفراً أما اليوم، فإن دخلهن اليومي بالكاد يصل الى (20 ) الف دينار.
ولم تقتصر معاناة أم حسين على قلة المال، بل امتدت إلى الخوف من المستقبل فهي ايضا تخشى من الهجرة وترك بيئتها، فهي لا تعرف كيف سيكون حالها في المدن البعيدة التي يعيش فيها من نزحوا قبلها مثل شمال بغداد أو المدن الاخرى لكن مع ذلك لا تفقد الأمل في إيجاد الحلول يوما ما وتقول “لو حصلنا على مساعدات من الحكومة لاستطعنا المقاومة لمدة أطول”.
أم رياض هي الاخرى تكشف عن صراع يومي مع الحياة التي تزداد صعوبة في ظل الجفاف الذي لم يرحمها فانها إذ انتقلت للمرة الثانية داخل هذا الهور الكبير مع عائلتها في محاولة أخيرة للبحث عن الوفرة المائية بعد أن جفَّت منابع الحياة في المكان الذي كانت تقطنه علها تجد ما يساعدها وعائلتها على التكيف مع قسوة الواقع.
وتتذكر أم رياض حزنها العميق عندما بدأ قطيع الجاموس الذي كان يشكل جزءًا كبيرًا من حياتها في الموت تدريجياً تقول بنبرة مشبعة بالألم “جاموسنا مات وماي ماكو” وتضيف “لا مكان يشبع الجاموس من القصب أو الأعشاب وكنا نعيش من بيع حليب الجاموس ونعيل عيالنا منه لكن الآن لا نستطع ان نحتفظ به فهو يعيش مع وجود المياه لذا اضطررنا لبيع بعضه”.
ومع تصاعد أزمة الجفاف، أصبح الأمل في الحياة في هذا المكان محدودًا، ما دفع العديد من جيرانها وأقاربها إلى الهجرة بحثًا عن مصادر مياه أخرى. تتابع أم رياض بحزن “الناس باعوا مواشيهم وراحوا يشترون أراضٍ في البصرة أو كربلاء لزراعة الطماطة، حتى لو ما كانت مهنتهم وآخرين أخذوا جاموسهم ورحلوا إلى مناطق اخرى”.
وبالرغم من صعوبة الهجرة إلى المدن، التي تفكر فيها أم رياض وعائلتها كحل، فإنها تجد صعوبة في التكيف مع الحياة في بيئة مختلفة فليس بالامكان التأقلم فالحياة داخل المدن تتطلب منا الكثير بعكس ما هو في حياتنا اليوم داخل الاهوار”نفضل البقاء هنا حتى لو كانت الحياة صعبة.”
ورغم كل المعاناة التي يواجهها سكان الأهوار، تبقى نساء هذه الأرض مثل أم خالد، وأم حسين وأم رياض، رموزًا للصبر والصلابة في كل ضربة من قسوة الطبيعة فهن يواصلن السير متمسكات بتراثهن وقلوبهن تنبض بحياة الاهوار من الهواء الطلق وبساطة العيش.
أنجزت هذه القصة ضمن سلسلة مقالات بدعم من برنامج قريب، وهو برنامج اقليمي تموله الوكالة الفرنسية للتنمية (AFD) وتنفذه الوكالة الفرنسية للتنمية الاعلامية (CFI)