مدينة الصدر.. سبعون عاماً من الفقر والأمل

بغداد- زينب جهاد

بأقدام عارية، يتراكض الأطفال فوق أرض ترابية غير معبدة بينما تتطاير سحب الغبار مع كل ركلة للكرة. ومع أن الكرة قديمة متهالكة بالكاد تحتفظ بشكلها، لكنها تظل محور لعبهم وبهجتهم. مشهد كهذا ليس بالغريب في مدينة الصدر التي يقطنها أكثر من مليوني نسمة والتي تعجّ بالحياة رغم قسوة ظروفها. 

تأسست هذه المدينة الواقعة في شرقي بغداد، في أواخر خمسينيات القرن العشرين خلال عهد رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم وكان الهدف من إنشائها توطين الفقراء والنازحين من مناطق جنوب ووسط العراق ، خاصة من مدن مثل العمارة وميسان، بعد موت مواشيهم وجفاف مزروعاتهم، إذ كانوا يعيشون في ظروف صعبة في مناطق عشوائية تعرف بـ”الصرائف” حول بغداد.

وعُرفت المدينة عند تأسيسها باسم “حي الثورة” تيمناً بثورة 14 تموز 1958. ثم تغير اسمها إلى “حي الرافدين” في عهد الرئيس عبد السلام عارف، ولاحقاً إلى “مدينة صدام” خلال حكم صدام حسين. وبعد عام 2003، سُميت بـ”مدينة الصدر” نسبةً إلى المرجع الشيعي محمد محمد صادق الصدر.

يقول جهاد كريم، 49 عاماً، أحد سكان المدينة القدامى: “هاجر والدي من العمارة إلى بغداد قبل تأسيس المدينة، واستقر أولاً في الشاكرية (كرادة مريم حالياً). كان والدي فلاحاً، وغادر بسبب موت عدد من مواشيه والمحاصيل الزراعية، آملاً في حياة أفضل لنا جميعاً. لاحقاً، انتقلنا إلى مدينة الصدر”. 

اليوم، يشكل الأطفال أكثر من ثلثي سكان مدينة الصدر، وهي منطقة تمتاز بكثافتها السكانية العالية. يعود ذلك إلى عوامل عدة، أبرزها انتشار لثقافة إنجاب الأطفال والسعي لتوسيع العائلة والعشيرة. 

تقول أم حيدر، ذات السبعين عاماً، والتي تقطن المدينة منذ شبابها “كنت أنجب مرتين في السنة (!)”، تضحك لمبالغتها ثم تتابع “لدي سهام، وحيدر، وإيمان، وإخلاص”، ثم تتوقف قليلاً بشيء من الشرود، محاولة استرجاع أسماء بقية أولادها، قبل أن تضيف: “كدت أنسى بعضهم! هناك عباس وحنان أيضاً. لو كان والدهم حياً، لكان لدينا خمسة عشر طفلاً أو أكثر”.

يظن البعض أن المدارس في مدينة الصدر تعمل بثلاث دوامات يومياً لاستيعاب الزخم السكاني وأعداد الأطفال الكبيرة. ولكن الحقيقة تكمن في مشكلة أعمق، إذ أن السبب الرئيسي ليس فقط كثافة السكان، بل النقص الحاد في عدد المدارس المتوفرة.

تقول حنان، وهي أم لأحد الطلاب: “ولدت ابني عام 2010، وفي نفس العام هدمت مدرسة ثورة العشرين. الآن، ابني في الثالث المتوسط، والمدرسة ما زالت مكباً للنفايات. غالباً ما تهدم المدارس في كل دورة انتخابية بحجة إعادة بنائها، لكن بعد انتهاء الانتخابات تُترك في حالتها المدمرة”.

في الأزقة الضيقة، التي بالكاد تتسع للمارة، شيدت منازل متراصة بمساحات صغيرة 144 متراً مربعاً لكل منزل، تعج بالحياة، إذ تعيش فيها غالباً أكثر من عائلة واحدة. ومع تزايد التكاليف وتدهور الأوضاع المعيشية، بدأ السكان بتقسيم المنازل إلى وحدات أصغر بمساحة 75 متراً مربعاً لكل وحدة، ما زاد من شدة الاكتظاظ.

وتضم مدينة الصدر 79 قطاعاً، تبدو متشابهة في تصميمها وبنيتها التحتية، لكن كل منها يحمل طابعاً خاصاً يعكس طبيعة سكانها وأسواقها الشعبية. وخلال فترة “الحواسم” (وهي عمليات السلب والنهب التي أعقبت أحداث 2003)، ظهر قطاع جديد أُطلق عليه “قطاع صفر”، مجاور للقطاع 1. 

يقول ريسان، من مواليد 1965، أحد سكان منطقة الحبيبية: “قطاع صفر هو نتاج أزمة السكن المتفاقمة منذ عهد صدام حسين. تفاقمت الأزمة بعد سقوط النظام بسبب ضعف الدولة وغياب الرقابة”. ويواصل حديثه قائلاً: “مع انهيار القانون، أصبح من المعتاد أن يستولي بعض الأفراد على الأراضي بشكل غير قانوني، حيث يقومون ببناء منازل وتأسيس أسر دون أن يتمكن أحد من محاسبتهم”.

مع مرور الوقت، توسعت هذه الظاهرة بشكل كبير، فبعد أن بدأت ببناء بيت أو بيتين، أصبحت تضم آلاف العائلات التي استقرت في هذه المنطقة. في الأصل، كانت هذه الأراضي تُستخدم كموقع للتخلص من النفايات، حيث كانت بعض الوزارات، مثل وزارة الصناعة، تدفن فيها مواد تالفة أو منتهية الصلاحية. وفي بعض الأحيان، كانت المواد التي لا تزال صالحة للاستخدام يعاد تدويرها، مثل البطاريات التي تُصلح وتُباع من جديد، أما المواد غير الصالحة فكانت تُباع كوزن، مثل البلاستيك والمعادن.

وعلى الرغم من تصنيف سكان قطاع صفر كـ”حواسم”، إلا أن الدولة قدمت له خدمات أساسية، مثل التبليط وشبكات المجاري والمياه والكهرباء، بعد أن كان الأهالي يعتمدون على القطاعات المجاورة للحصول على هذه الخدمات. ولأنه يقع بجوار قطاع 1، أُطلق عليه اسم قطاع صفر.

في قلب هذه المدينة المكتظة، يقع سوق مريدي، أحد أشهر الأسواق الشعبية في بغداد وأكبرها، والممتد على طول ثلاث قطاعات كاملة من المدينة. بين الأصوات العالية والضجيج الذي يُسمع على بعد شارعين من السوق، وفي وسط اكتظاظ الناس المترددين على المحال المختلفة، مثل بائعي الخضار والطيور والسمك، تبرز أصوات الأطفال الذين يربتون على أكتاف المارة بجملة مألوفة: “خالة علاكة؟”، وهي عبارة أصبحت جزءاً من المشهد اليومي في هذا السوق الكبير.

هؤلاء الأطفال يمتهنون بيع الأكياس البلاستيكية، وهي مهنة تتميز بسهولة ممارستها، فهي لا تحتاج إلى مكان أو محل خاص ولا إلى رأس مال. “يكفي أن أشتري درزناً من الأكياس لأتجول بها في السوق حتى ينتهي وأعود للمنزل”، يقول عباس، البالغ من العمر 14 عاماً، وهو يلف أحد الأكياس على خصره ليجمع فيها بقية الأكياس من الدرزن ويتجول في سوق مريدي لبيعها، ليساعد في سد احتياجات أسرته التي يعيلها.

تعتبر هذه المهنة آمنة مقارنة بمهنة التزوير، التي أوشكت على الاندثار والتي اشتهر بها سوق مريدي بحيث يصعب تمييز الوثائق المزورة عن الأصلية إلا من قبل الجهات الرسمية.

بدأت هذه المهنة في مكان يُعرف بشارع الدلالات في السوق مريدي، ثم انتقلت لاحقاً إلى منطقة الأورزدي.”سابقاً كان التزوير شائعاً بسبب صعوبة التعامل مع الإجراءات الرسمية، لكن التطورات التكنولوجية حدّت من التزوير بشكل كبير”، يقول أحد الأشخاص الذين كانوا يعتمدون على تزوير بطاقات الجنسية وشهادات تسجيل السيارات وأرقامها في سوق مريدي. ويضيف: “أنظمة الباركود الحديثة جعلت التزوير شبه مستحيل، ولا يمكن لأي شخص القيام به دون مهارات وتقنيات متقدمة جداً”.

هكذا، بين ضجيج الأسواق وضيق الأزقة، تظل مدينة الصدر تعكس روحاً صامدة تجمع بين الكثافة السكانية الهائلة والتحديات المعيشية، لتبقى صورة نابضة بالحياة وشاهداً على التحولات التي مرت على البلاد في العقود السبعة الأخيرة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى