صراع على البقاء.. شارع الجلود في مواجهة المنتجات المنافسة

بغداد- زهراء علي

في حي الكرادة خارج، في قلب بغداد، يبرز شارع الجلود الذي شُيّد في الخمسينيات من القرن العشرين شاهداً على تاريخ طويل من الإبداع في صناعة المنتجات الجلدية العراقية، لكنه أيضاً يقف شاهداً على تحديات جسيمة تواجهها هذه الصناعة اليوم، من أزمات اقتصادية وارتفاع أسعار المواد الخام، إلى منافسة شرسة من المنتجات المستوردة التي تهدد مكانة المنتجات الوطنية المحلية.

في الصباح الباكر، تفتح متاجر هذا السوق أبوابها، عارضةً يضائع متنوعة من الملابس الجلدية، والأحذية، والحقائب، والأحزمة التي تجذب الانتباه بلمعانها وبريقها اهتمام الزبائن الباحثين عن الجودة والتفرد بالقطع المميزة والمختلفة. 

بينما أتجول في الشارع، أنظر إلى المحال المتراصة التي تمتلئ بالبضائع الجلدية، وكل منها يحمل لمسة فريدة. في محل “عالم الجلود” الذي فتح أبوابه لاستقبال الزبائن برائحة الجلد الفاخرة، لكل منتج سعره الخاص، إذ تتراوح أسعار السترات الجلدية بين 150 و200 ألف دينار عراقي، أما المحافظ فتبلغ بين 30 و35 ألفاً، والأحزمة قيمتها 20 ألف دينار عراقي.

يملك مهند سعد هذا المحل منذ 31 عاماً. كان في السنوات السابقة يحقق مبيعات كبيرة على حد قوله، لكن أوضاع السوق انقلبت اليوم. يقول: “في الماضي كان هناك عمل كثير، أما الآن فلا، بسبب المستورد الذي غزا الأسواق العراقية. في السابق، كانت الجلود جميعها عراقية، أما اليوم فهي استيراد صيني، وتركي، وسوري، وإيراني”.

المشي على الرصيف المبلط في نهاية سلسلة محلات الجلود في هذا الشارع يقودنا إلى محل يبدو صغيراً من الخارج، لكن عند الدخول يتضح حجمه الكبير وما يحتويه من منتجات جلدية متنوعة. في إحدى زواياه، يجلس رجل في منتصف العمر خلف آلة ماكنة، منشغلاً بالعمل على قطعة من الجلد يبدو أنها من تصنيع محلي. 

يقول صاحب المحل، حيدر محمد “أعمل في هذه الحرفة منذ عام 1995، وهي مهنة متوارثة من والدي، الذي كان يعمل مديراً لقسم التصاميم في شركة باتا” وهي شركة عالمية ذات أصل تشيكي، تصنع وتوزع جميع أنواع الأحذية ولوازمها، وافتتحت محلاتها في العراق عام 1932.

 

ويضيف حيدر: “في السابق، كانت الدباغة عراقية والصناعة محلية بالكامل، وكانت معامل الدباغة متوفرة بكثرة بسبب الظروف الصعبة والحصار آنذاك. وأيضاً، كان الاستيراد ممنوعاً، مما جعلنا نعتمد على التصنيع المحلي بنسبة 100‎%‎. أما الآن، فإن نسبة البضاعة المستوردة تصل إلى 90‎%‎، بينما التصنيع المحلي لا يتجاوز 10‎%‎، لأن الاستيراد أصبح أرخص، والأيدي العاملة في العراق باتت قليلة جداً”. 

ويكمل بينما يواصل خياطة قطعة جلدية بإتقان وسلاسة: “في الماضي، كانت هناك دورات تدريبية للنساء والرجال، ومعاهد مهنية تعلم مهنة الخياطة، وكان لدينا قطاع خاص لصناعة الجلود”. 

في المحلات الواقعة على الجانب الآخر من الشارع، حيث يزداد عدد المتاجر، يعرض صاحب المحل وعد حميد بضاعته للزبائن بكل جهد. يقول وعد: “كنت أملك مدبغة في النهروان، وبدأت العمل فيها منذ عام 1992، لكنها أُغلقت فيما بعد”. 

ويضيف بأسف على ما وصلت إليه الظروف: “انتقلت إلى فتح محل لبيع المنتجات الجلدية منذ خمس سنوات، ولكن حتى معامل الدباغة الأخرى في شارع الرشيد، التي كانت القلب النابض لهذه الصناعة، أغلقت أبوابها. اليوم، لا توجد سوى مدبغة أو اثنتان بالكاد، بسبب نقص الأيدي العاملة، حيث اتجه معظم الناس إلى الانضمام للجيش أو الشرطة”.

وعند الحديث عن أنواع الجلود المستخدمة في الوقت الحاضر، أوضح قائلاً: “في السابق، كنا نستخدم أنواعاً متنوعة من الجلود مثل جلد البقر والماعز والغنم. أما الآن، فأغلب ما نستخدمه، إن لم يكن كله، هو جلد الغنم فقط”.

أما الزبون حيدر، وهو مدرس جاء من جنوب العراق، من مدينة الناصرية، فيقول: “أتيت خصيصاً إلى محلات شارع الجلود للتبضع، لما تتميز به هذه المحلات من جودة المنتجات الأصلية” ويضيف: “ما يدفعني لشراء المنتجات الجلدية هو طول عمرها الافتراضي، وإمكانية صيانتها، فضلاً عن جماليتها وخلوها من الروائح الكريهة. لقد كنت أشتري المنتجات الجلدية وأرتديها منذ أكثر من 20 عاماً”. قال ذلك وهو يقوم بتجربة سترة جلدية سوداء، مبرراً اختياره: “اللونان الأسود والبني هما الأكثر رواجاً ومبيعاً في هذا الشارع”.

تزامناً مع حديث حيدر، جال في خاطري سؤال: كيف يمكن التفريق بين الجلود الأصلية والتقليدية؟ وجهت هذا السؤال إلى صاحب المحل، وعد حميد، فأجاب بثقة: “الجلود الأصلية تتميز بقدرتها على مقاومة النار، فعند تقريبها من اللهب لا تنكمش. أما الجلود التقليدية التي نطلق عليها اسم المشمع، فإنها تنكمش بسرعة عند تعريضها للنار”.

في المحل المجاور، يجلس حسين خارج متجره، مرحباً بالزبائن وداعياً إياهم لمشاهدة البضائع المعروضة. يقول حسين بحسرة: “أغلب المنتجات المتوفرة اليوم مستوردة رغم أن المنتجات العراقية الأصلية هي الأفضل من حيث الجودة. لكن للأسف، العراقيون يفضلون المستورد لأنه أرخص وجاهز. فقط من لديهم قياسات خاصة أو من يرغبون في الزي العربي يلجؤون إلى التصنيع المحلي، لأن هذا النوع من الملابس لا يُصنع إلا هنا في العراق”. 

وبينما يتحدث، كانت ملامح الخيبة واضحة على وجهه، مضيفاً: “كان هذا الشارع يشكل ربع النشاط التجاري في شارع الكرادة خارج. أما الآن، فقد تقلصت نسبته إلى خمسة بالمئة‎ فقط”.

خلال حديثنا مع حسين، قاطعنا الزبون علي برأي مختلف قائلاً: “أسعار المنتجات المحلية أغلى من المستوردة، وهذا السبب الرئيسي الذي يدفع الناس إلى تفضيل المستورد، على الرغم من أن الصناعة العراقية أفضل جودة.” ومن جانبه، أضاف أحمد، زبون آخر: “المشكلة ليست فقط في الأسعار، بل أيضاً في التصاميم. المنتجات العراقية تفتقر إلى التجديد، فالموديلات قديمة ومكررة. الزبائن اليوم يبحثون عن أزياء معاصرة ومواكبة للموضة، وهو ما لا توفره الصناعة المحلية”.

في محلات هذا الشارع، لا تقتصر البضائع على المنتجات الجلدية المدنية فحسب، بل تمتد لتشمل الملابس التي تحمل الرتب العسكرية، حيث تكاد هذه الملابس أن تكون جزءاً لا يتجزأ من كل متجر، ويمكن للزبائن شراء أي تصميم يعجبهم بحرية، بينما يتولى صاحب المحل إضافة الرتب العسكرية حسب الطلب.

أما عن مستقبل الشارع، فقد أعرب أصحاب المحال عن تفاؤلهم رغم التحديات الراهنة، مستندين إلى وعود الحكومة العراقية بدعم الصناعات المحلية والتقليدية. ويرى هؤلاء أن الشارع يمثل رمزاً مهماً للتراث العراقي وروح بغداد، ولعب دوراً بارزاً في تعزيز الاقتصاد المحلي، وهم يأملون أن تُترجم وعود الدعم إلى خطط ملموسة تحافظ على صناعة الجلود المحلية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى