مركبات بغداد.. دفتر ذكرياتٍ متنقل

بغداد- وفاء ثامر غازي

في أحد شوارع بغداد المزدحمة، وسط ضجيج السيارات وأصوات أبواقها، تظهر عبارات مكتوبة بخطوط ملونة ومتنوعة على ظهر المركبات، بدءاً من التكاتك الصغيرة التي تتنقل بسرعة بين الأزقة، وصولاً إلى سيارات الـ “كيا” التي تنقل عشرات الركاب يومياً. هذه العبارات تعكس مزيجاً من الأحلام المحطمة، والحزن المكتوم، والسخرية المرّة، أو الحكم الشعبية.

فمن سائق تكتك كتب “خذوك بلا تعب جنك ورث ميتين”، إلى سائق دراجة يعلق عبارة ساخرة “رميت همومي ببحر طلع السمج (السمك) يلطم” تصبح شوارع بغداد معرضاً متنقلاً لأفكار وآراء وذكريات أصحاب هذه المركبات.

في شارع الطعمة، استقللت تكتكاً يقوده شاب في مقتبل العمر يدعى علي جاسم. كان التعب يبدو واضحاً عليه رغم حداثة سنه. العبارة المكتوبة على ظهر التكتك أثارت فضولي، فسألته عنها. أجابني بنبرة تخفي خيبة أمل قديمة: “كتبتها لأنني عشت هذا الموقف. كنت أحب فتاة وتعبت كي أكون معها، لكنها تزوجت شخصاً آخر لأنه كان يملك المال وأنا لم أكن أملك شيئاً حينها”. أكمل حديثه بابتسامة: “الأمر قديم، لكنه ما زال عالقاً في ذهني، وكلما تذكرته أقول لنفسي: لماذا التعب إذا كانت النتيجة محسومة من البداية؟”.

علي الذي ما زال يحتفظ بذكرى مرت عليها سنوات، قد يكون هدفه إثارة انتباه المارة أو ربما بالفعل، ما زال متأثراً بالموقف الذي حدث معه، لكنه يؤكد أن العبارة أصبحت اليوم هويته التي يعرفه الناس من خلالها: “هم لا يعرفون من هو علي جاسم، بل يعرفون صاحب العبارة (خذوك بلا تعب جنك ورث ميتين). أحياناً عندما ينسى الركاب أغراضهم في التكتك، يسهل عليهم العثور عليها من خلال أن يسألوا أصدقائي عن صاحب العبارة، ويجدوني بسهولة لتعود لهم أغراضهم”.

لكن علي ينوي إزالة العبارة قريباً، ليس لأنها تذكره بذكريات مؤلمة، بل لأن ظاهرة كتابة العبارات انتشرت بشكل كبير وأصبحت تشوه المركبات على حد وصفه. يقول علي”عندما وضعتها كانت موضة العبارات حينها، وكنت مراهقاً أيضاً، لكن وضع العبارات الآن انتشر بطريقة مخيفة، بعد أن كانت تقتصر على اقتباسات صغيرة أو عبارات دينية أصبحت الآن تشوه خلفيات المركبات، وبعضها غير لائق بمجتمعنا بتاتاً”.

في طريق آخر، بينما كنت أسير في زحام شارع الميكانيك، توقف محمد غسان، أحد أبناء الحي من مواليد 2001، فجأة أمام أحد التقاطعات وأشار إلى العبارة المكتوبة على ظهر دراجته: “رميت همومي ببحر طلع السمج يلطم”. 

بابتسامة تخفي وراءها الكثير من التعب قال: “هي جملة تعبر عن واقعنا. حتى البحر ما يشيل همومنا”، ثم أضاف بنبرة هادئة: “كتبتها لأن ما أملك من هموم يكفيني وزايد. الدنيا ما تمشي وياي عدل، منين ما أجيبها تنسد بوجهي”.

محمد ترك الدراسة منذ الصف السادس الابتدائي، فلا يملك شهادة حتى لو بسيطة. يكمل حديثه: “في هذا الوقت حتى صاحب الدكتوراه صعب يلقى شغل، فما بالك بشخص مثلي؟ اشتغلت في أكثر من مكان وتعرضت لحوادث جسيمة، خرجت منها سليماً لكن مديوناً بتكاليف العمليات الجراحية، وللآن أعمل حتى أسدد ديوني”.

ثم تابع يروي إحدى القصص من يومياته: “كانت لدي دراجة أخرى قبل خمس سنوات. كنت أتجول فيها مع رفيقي بشوارع الميكانيك العامة في شهر محرم، نوصل الطعام إلى إحدى العائلات الفقيرة. فمسكنا أحد رجال المرور حينها وطلب غرامة على الدراجة بقيمة 100 ألف دينار عراقي. قلت له: خذ الدراجة الك بالعافية عليك. لو أملك 100 ألف ما كنت اشتغلت بالدراجة، ومن حينها صرت أخاف أن أتجول بالدراجة في الشوارع العامة بسبب الغرامات، وكذلك لأنهم يطلبون مني أوراق ملكية الدراجة وأنا لا أملكها”.

محمد يشعر بالاستياء من القوانين التي يراها تطبق بشكل انتقائي. يقول غاضباً: “لماذا أنا الوحيد الذي يتم إيقافه من قبل المرور ويحصل على غرامة؟ الكثير من الشباب أراهم يتجولون بحرية في الشوارع ويضعون العبارات ولا أحد يوقفهم. هل القانون يطبق على البعض فقط؟”

من جهتها أصدرت مديرية المرور العامة بياناً ورد فيه أن الكتابة على المركبات تعد مخالفة قانونية يعاقب عليها القانون، وأنها تشغل السائقين بالقراءة وربما تتسبب بحوادث. وجاء في البيان أن الغرامة تصل إلى 100 ألف دينار، داعية السائقين إلى “الالتزام الطوعي بالابتعاد عن هذه المخالفة التي لا تتماشى مع أخلاقيات وتقاليد المجتمع العراقي”.

وتتنوع العبارات المكتوبة على المركبات، إلا أن معظم السائقين يحافظ على وضع عبارات ذات طابع ديني، كما هو الحال مع عبدالحسين علي، سائق سيارة “كيا” في أحد كراجات جامعة بغداد، وقد زين زجاجها الخلفي بصورة للإمام علي (عليه السلام) اشتراها من سوق السنك في بغداد حيث يمكن الطلب من المطبعة تجهيز الكتابة أو التصميم المرغوب من الزبون.

يقول عبدالحسين بينما يخرج صوت القارئ عبدالباسط عبدالصمد عبر مكبرات الصوت من مركبته: “أرى أن هذه الصورة بركة للمركبة وحفاظ عليها وعلى الركاب. لا أضع عبارات أخرى لأنها لا تعود عليّ بنفع. كما أنني أغير العبارات والصور الدينية بين فترة وأخرى حسب المناسبات، لكني لا أشجع وضع العبارات السياسية أو الحساسة لأنها تثير المشكلات ولا تليق بمجتمعنا وتقاليدنا”.

في سوق السنك، يوضح محمد، العامل في إحدى المطابع، أن طباعة العبارات أصبحت تجارة مربحة رغم انخفاض الطلب عليها مقارنة بالعبارات المستوردة التي تباع في الأسواق. يقول محمد: “العبارات المطبوعة محلياً غالباً ما تكون أغلى من المستوردة، لأن الأخيرة تصنع بكميات كبيرة وبأسعار أرخص”. ويضيف أن الزبائن يأتون إليه بأنواع شتى من العبارات، بعضها يرفض طباعته لأنه من وجهة نظره يسيء للقيم والتقاليد الاجتماعية، مثل العبارات التي تتضمن سخرية من النساء أو من بقية السائقين أو التي تتضمن عبارات سياسية وحزبية إشكالية على حد وصفه.

قصص سائقي المركبات في بغداد تعكس وجوهاً متعددة لحيوات مختبئة خلف مرايا مركباتهم، من سائق تكتك يحكي خيبة أمله، إلى سائق دراجة يكافح صعوبات الحياة، وسائق “كيا” يجد في العبارات الدينية بركةً وحمايةً لمركبته. ورغم المنع الرسمي لهذه الظاهرة، يبدو السائقون مصرّين على تحويل مركباتهم إلى معارض متنقلة تروي حكايات مفعمة بالذكريات والآمال، معبرة عن واقع المدينة وروح ساكنيها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى