عندما يصبح حفل التخرج منصة للهوية والانتماء

فاطمة كريم – بغداد
في حفل تخرج دفعة من طلاب كلية الإعلام في بغداد، بدت ساحة الاحتفال وكأنها منصة للتعبير عن الهوية والانتماء أكثر من كونها مجرد مناسبة وداعية للحياة الجامعية. تعالت الهتافات والزغاريد وسط أمواج من الأردية السوداء، ورفرفت أعلام تحمل رسائل متنوعة، من رايات الأندية الرياضية إلى علم فلسطين، إلى صور شخصيات دينية واجتماعية.
محمد ستار، البالغ من العمر 29 عامًا، طالب في كلية الإعلام، قضى سنواته الجامعية وسط نقاشات حادة حول كرة القدم. بسبب شغفه الشديد بنادي ريال مدريد، أصبح معروفًا بين زملائه وحتى أساتذته بحبه لهذا النادي.
في يوم تخرجه، لم يفوّت محمد الفرصة ليعبّر عن ولائه الكروي بطريقته الخاصة؛ إذ رفع علم ريال مدريد وسط زملائه، ليس فقط احتفاءً بناديه المفضل، بل أيضًا كردّ طريف على مشجعي غريمه التقليدي، نادي برشلونة.
يتذكر لحظات التخرج بحماس: “منذ أول يوم لي في الجامعة، كنت أخوض نقاشات طويلة عن الكلاسيكو، وكان أصدقائي يستفزونني كلما خسر الريال. لكن اليوم هو يومي، ولن يكتمل دون أن أترك بصمتي المدريدية”، قالها ثم اقترب من الكاميرا، مدّ العلم أمام العدسة، كأنه يوثّق لحظة انتصار شخصي.
قبل سنوات، كانت حفلات التخرج في العراق تقتصر على مراسم رسمية بسيطة، ارتداء الروب الأسود والقبعة السوداء، التقاط صورة جماعية، والاستماع إلى كلمات مسؤولي الجامعة وسط أجواء يغلب عليها الطابع الرسمي. آنذاك، لم يكن يُرفع سوى العلم العراقي، تعبيراً عن فخر الطلاب بانتمائهم الوطني.
أما اليوم، فقد تحولت حفلات التخرج إلى كرنفالات مصغّرة يفيض فيها الطلبة بالحماس والانفعالات. فلم يعد الأمر يقتصر على الاحتفال بإنهاء المرحلة الجامعية، بل أصبح فرصة للتعبير عن القضايا الشخصية والعامة من خلال الأعلام والرموز التي يحملها الطلبة.
رفع بعض الطلاب علم فلسطين تضامناً مع أبناء غزة والضفة، فيما رفرفت رايات الأندية الرياضية وسط هتافات المشجعين، بينما اختار آخرون حمل صور رموز دينية أو شخصيات مؤثرة في المجتمع.
“أنا مشجع لبرشلونة منذ صغري، وربّيت أولادي على حب النادي. قررت أن أفاجئ ابنتي برفع العلم في يوم تخرجها”.
لم يكن الطلبة وحدهم من استغل الحفل كمساحة للتعبير، بل امتد الأمر إلى بعض الأهالي أيضًا. فلاح كامل، رجل خمسيني اشتهر بلقب “فلاح البرشلوني”، احتفل بتخرج ابنته شروق من كلية الصيدلة في الجامعة الوطنية للعلوم بأسلوب غير متوقع.
وسط زملاء ابنته، ظهر فلاح بين الحضور ممسكًا بعلم برشلونة، يلوّح به بفخر وكأنه في مدرجات كامب نو. لم يكتفِ بذلك، بل بدأ يؤدي رقصة الانتصار الشهيرة للاعب رافينيا، وسط ضحكات العائلة وتصفيق الحاضرين.
التقطت عدسات الهواتف المشهد، وسرعان ما انتشر الفيديو على وسائل التواصل الاجتماعي، ليطلق على الأسرة لقب “العائلة البرشلونية”. يقول فلاح: “أنا مشجع لبرشلونة منذ صغري، وربّيت أولادي على حب النادي. قررت أن أفاجئ ابنتي برفع العلم في يوم تخرجها”.
للأساتذة الجامعيين موقفهم أيضًا وسط هذا المشهد، فبينما كان الطلبة يلوّحون بأعلام أنديتهم المفضلة، تقدّم عدد من الأساتذة حاملين العلم الفلسطيني، وكأنهم يقولون إن التخرج لا يعني فقط اجتياز مرحلة أكاديمية، بل هو أيضًا إعلان عن القيم والمبادئ التي يؤمن بها المرء.
تقول الدكتورة أماني شاكر، إحدى المشاركات في رفع العلم: “نحن لا نرفع هذا العلم لمجرد التقاط صورة أو لإثارة الجدل، بل لأننا نؤمن بأن الجامعة ليست فقط مكانًا للتعليم، بل هي أيضًا منبر للوعي والإنسانية. نحن نعلّم طلبتنا أن المعرفة لا تنفصل عن الموقف، وأن العلم الحقيقي هو الذي يقترن بقيم العدل والحرية”.
في وقت أصبح التخرج مناسبة لاستعراض الانتماءات الرياضية والشخصية، جاء موقف الأساتذة ليذكّر الجميع بأن هناك قضايا لا يمكن التغاضي عنها، وأن الفرح الحقيقي لا يكون مكتملاً إلا حين يكون مقرونًا بموقف إنساني نبيل.
نحن لا نرفع هذا العلم لمجرد التقاط صورة أو لإثارة الجدل، بل لأننا نؤمن بأن الجامعة ليست فقط مكانًا للتعليم، بل هي أيضاً منبر للوعي والإنسانية
هذه المشاهد المتنوعة، حيث تتعدد الرايات التي ترفرف في حفلات التخرج، لم تكن مألوفة قبل سنوات، لكنها اليوم باتت جزءاً من المشهد، مما يحوّل التخرج من مجرد احتفال بالحصول على شهادة جامعية إلى منصة مفتوحة للتعبير عن الهويات والانتماءات المتعددة.