الفناجين تدور والذكريات تعود.. لعبة “الصوينية” في رمضان

مرتصى الحدود- ذي قار
في قضاء سوق الشيوخ جنوبي مدينة الناصرية يلتقي العشرات من الأصدقاء في موقعٍ مألوف ووقت محدد دون حاجة إلى تحديد موعد مسبق. سرعان ما يتحول المكان إلى ساحة مفتوحة لممارسة لعبة تراثية تُعرف باسم “الصوينية” أو كما يسميها البعض “الصينية”.
قد يبدو اسم اللعبة غريباً للبعض، لكنها تقليد جماعي موسمي يظهر في شهر رمضان ثم يختفي مجدداً مع نهايته، ليعود في العام التالي محملًا بذات الأجواء حماسية.
لا تقتصر “الصوينية” على كونها مجرد لعبة، بل هي مزيج من الحيلة والذكاء واستخدام الحدس، إذ تقوم فكرتها على إخفاء المحبس داخل فنجان بين 15 فنجانًا تُوضع جميعها في لوح معدني دائري يُعرف باسم “الصينية”، لتبدأ بعدها الفرق في سباق حماسي لاكتشاف مكانه. ويتولى أحد أفراد الفريق وهو الأكثر خبرة، مهمة العثور على الفنجان الذي يخفي المحبس في اختبار دقيق للتركيز والسرعة.
ورغم ارتباطها الوثيق بمدينة سوق الشيوخ، إلا أن “الصوينية” ليست حكراً عليها، بل تمتد شعبيتها إلى محافظات شمال العراق، مثل كركوك وأربيل والسليمانية، حيث يتنافس اللاعبون من مختلف الأعمار لإثبات مهاراتهم في العثور على المحبس.
وعلى الرغم من بساطتها، فإن اللعبة تنطوي على أسرار وتكتيكات تجعل كل لحظة فيها مشحونة بالإثارة والتشويق، مما يعزز مكانتها كجزء أصيل من التقاليد الرمضانية، التي تجمع الأجيال وتنعش ذاكرة الشهر الفضيل بأجواء الحماس والتحدي.
ورغم تشابه “الصوينية” بين سوق الشيوخ ومدن شمال العراق من حيث استخدام الفناجين والصينية، إلا أن هناك اختلافًا واضحًا في عدد الفناجين، حيث تُلعب في الشمال بـ 11 فنجانًا فقط، بينما يعتمد أهل سوق الشيوخ على 15 فنجانًا، وهو اختلاف لم يُعرف سببه بدقة. كما أن “الصوينية” تختلف عن لعبة “المحيبس” الرمضانية الشهيرة، إذ تركز على قدرة اللاعبين على اكتشاف الفنجان الذي يخفي المحبس بدلًا من البحث عنه في أيدي المشاركين كما هو الحال في “المحيبس”.
في مقهى شعبي بقضاء سوق الشيوخ، حيث الهدوء يحيط بالمكان، يجلس ستار جبار، أحد أبرز لاعبي “الصوينية” في المدينة، على فراش خفيف، وأمامه الصينية المعدنية التي تضم 15 فنجانًا. يحدق جبار في الفناجين التي يتم تدويرها بسرعة بعد إخفاء المحبس داخل أحدها، وبينما يروي لنا تفاصيل اللعبة، يرفع فنجانًا تلو الآخر بحذر شديد. وعندما تأتي لحظة الحسم، يصرخ بصوت عالٍ “طكَة!”، معلنًا اكتشافه للمحبس، لتتعالى تصفيقات الحضور في أجواء تملؤها الحماسة.
وفقًا لما يرويه ستار جبار، يعود تاريخ “الصوينية” في سوق الشيوخ إلى ما يقارب 200 عام، ويُقال إنها وصلت إلى المدينة من قضاء الزبير في البصرة، وظلّت تمارس حصريًا في ذي قار وتحديدًا في سوق الشيوخ خلال شهر رمضان، دون أن تُلعب في بقية أشهر السنة.
يبتسم جبار وهو يوضح أن اللعبة ليست سهلة كما تبدو، إذ إن اكتساب المهارة فيها يحتاج إلى سنوات من التمرين والتركيز، ورغم أنها تعتمد بشكل كبير على الحدس، إلا أن إتقانها يتطلب دقة عالية في مراقبة حركة الفناجين.
كما يشير إلى أن اللعبة تلعب للتسلية فقط، حيث لا تعتمد على المراهنات أو الجوائز، وتبدأ في الساعة الثامنة مساءً وتستمر حتى الحادية عشرة ليلًا، مما يجعلها جزءًا من الطقوس الرمضانية التي تجمع الأصدقاء في أجواء مليئة بالتحدي والمتعة.
بينما يشرح ستار جبار تفاصيل اللعبة، يجلس على الطرف الآخر سعد جاسم، أحد لاعبي الفريق الخصم، وهو في الخمسينيات من عمره، مثنيًا ركبتيه، واضعًا يديه على الأرض، مستعدًا لاستقبال الفناجين.
بعينين مركزتين يتنقل بنظراته بينها، يحاول استدعاء الحظ في كل مرة يرفع فيها واحدًا منها، مترددًا بين الحدس والخبرة. لكنه في النهاية يخسر الجولة، وحين يكتشف أن المحبس ليس تحت الفنجان الذي اختاره، يضرب يديه ببعضهما، معبرًا عن خيبة أمله واعترافه بالهزيمة، وسط أصوات التشجيع من فريقه: “عفية أبو سعود، على الجايات جيب لنا المحبس”.
هذه اللعبة، التي تنفرد بها مدينة سوق الشيوخ في محافظة ذي قار، تحمل سحرًا خاصًا، حيث يجتمع العشرات لمتابعتها والاستمتاع بأجوائها. لا يمارسها سوى قلة ممن يدركون قيمتها ويفهمون ارتباطها العميق بتراث المدينة، مما يجعلها تجربة نادرة ومميزة، لا تُرى إلا في مناسبات محددة، مما يعزز أصالتها وتميزها.
ورغم أنها تغيب عن المشهد طوال العام، إلا أنها تظل رمزًا حيًا في الذاكرة الجماعية خلال رمضان، حيث تنبض شوارع سوق الشيوخ بالحياة مع كل فنجان يدور في الصينية.